يلقي إعادة النظر في ترتيبات قانون التقاعد بظلاله على الساحة الاقتصادية والاجتماعية مثيرا جدلا في عالم الشغل إلى درجة أفرزت مواقف منها ما يلوح باحتجاجات وإضرابات في وقت ينتظر فيه أن يتم تعميق وتوسيع ورقة إصلاح نظام التقاعد بما لا يمسّ بالمكاسب الاجتماعية. ومن شأن تنشيط الحوار الاجتماعي بين الشركاء أن يمهد السبيل للخروج بصياغة دقيقة ومتوازنة تستجيب للانشغالات بما في ذلك حماية التوازن المالي لصندوق التقاعد.
وخلافا للعمل في إطار قوالب جامدة تثير الجدل، فإنه ينبغي اللجوء إلى اعتماد مقاربة مرنة وتدرجية بما يأخذ في الاعتبار مصالح كل الفئات، خاصة تلك التي تتوفر فيها شروط الاشتراكات المالية في الصندوق ويتعلّق الأمر بفئة العمال الذين أدوا 32 سنة عمل قانونية. ويخص الأمر هنا ما يعرف بالتقاعد المسبق أو دون شرط السن الذي يمكن تطوير شروطه من حيث السن برفعها من 50 سنة إلى 55 سنة مثلا. أو في حالة اعتماد سن الـ 60 سنة، فإنه يمكن إقرار رفع نسبة منحة التقاعد لمن تجاوزت اشتراكاته 32 سنة إلى أكثر من 80 بالمائة.
لا ينبغي أن تدرج عملية مراجعة نظام التقاعد في سياق الاستجابة لحالة طارئة أو ظرفية ناجمة عن تغير معطيات الوضعية المالية بعد أزمة أسواق المحروقات، إنما المطلوب القيام بعمل يرتكز على مؤشرات راهنة وتوقعات مستقبلية ضمن معادلة متوازنة بين المكاسب الموضوعية والمتطلبات المالية دون السقوط في إنتاج تنظيم بيروقراطي جاف لا يتماشى مع واقع عالم الشغل.
وفي هذا الإطار، فإنه ينبغي التمييز بين أحكام التقاعد النسبي القائم على معيار احتساب سنوات العمل والذي يمكن اللجوء إلى إلغائه أو تجميده والتقاعد المسبق دون شرط السن الذي يمكن مراجعة أحكامه بالنسبة للسن برفعها بعدد من السنوات وفتح المجال للعمال الذين يريدون مواصلة العمل إلى 60 سنة وأكثر لمن لم يستوف نسبة الاشتراكات القانونية.
إن اعتماد خيارات متنوعة مطابقة لكل فئة من شأنه أن يفكك عقدة الوضع الراهن بما يعيد الهدوء إلى عالم الشغل وينهي ما يشبه الفرار من عالم الشغل مثلما تسجله مصالح صندوق التقاعد التي تواجه ارتفاعا هائلا للملفات زاد منها هاجس التدابير الجديدة المثيرة للنقاش، والتي يحتمل أن تخضع لإعادة صياغة ذات مرونة من شأنها أن تأخذ في الاعتبار الانشغالات الموضوعية ومن ثمة إنهاء حالة الضبابية وتجاوز اللجوء إلى أحكام استثنائية لفئات معينة تحت عنونا المهن الشاقة.
غير أنه بالمقابل من المهم أن ينخرط صندوق التقاعد في عمل استثماري ناجع من أجل تنمية الموارد والرفع من قدراته فيما يجب أن ترتفع وتيرة إلزام المتعاملين والمؤسسات والمقاولات بالتصريح بالعمال ودفع اشتراكات الصندوق مع انتهاج مسار للحوكمة والتسيير العصري بالتقليص من النفقات.
وفي انتظار ذلك آن ما يتطلب التشخيص والمتابعة هو ظاهرة الذهاب المكثف إلى التقاعد الأمر الذي يتطلب بإطلاق دراسة معمقة من خلال بحث دقيق حول الأسباب والدواعي مع ضرورة الاهتمام بمحيط العمل من جانب مكافحة منغصاته وإزالة كل ما يثير انعكاسات سلبية هي من بين أسباب الوضع الراهن.
إن عالم الشغل بحاجة إلى تنمية محيطه وترقية شروطه بحيث يستعيد الوسط المهني في كل القطاعات خاصة المعروفة بالعناء والمشقة الجسدية والذهنية تلك الميزات الايجابية التي كانت في مراحل سابقة حينما كان العامل الذي يستوفي الشرط القانونية للتقاعد يذرف الدموع لمفارقته العمل، بالنظر لما كان من علاقات إنسانية وتضامن وظروف عمل محفزة وبروز للكفاءات وتثمين للجهود وتقدير الخبرة، وهي القيم التي ينبغي إعادة إحيائها لتطهير مناخ العمل بإزالة مسببات حالة أشبه بالإحباط الذي تدفع إلى مغادرة الشغل.