لم يتوقف لحظة في الدفاع عن المرجعية الجزائرية طيلة مساره العلمي والمهني، متحدثا عن الأصالة والهوية والشخصية التي تحمي البلاد من الذوبان، في عولمة زاحفة تكسر الحدود واحدة واحدة مقربة المسافات البعيدة، جاعلة من العلم الفسيح المترامية الأطراف قرية شفافة. لم يتوقف فقيد الجزائر وهو يكتب عن الحرية الإنسانية وحقوق الإنسان الواردة في كتابات السلف من العلماء المسلمين استلهم منهم الغرب، مثل الفيلسوف ابن رشد أحد أقطاب الحضارة الإسلامية وآخرين.
عرفناه في مختلف الندوات والمنابر مشبعا بقيم الأصالة وحب الوطن، كانت له نظرة مغايرة أحيانا تجاه قضايا دينية ودنيوية، لكن تصب في جوهر الأشياء وقدسيتها بناء جزائر موحدة غيورة عن قيمها وثوراتها وحبها الأبدي الاعتلاء بين الأمم مرفوعة الهامة والشأن. جزائر قوية بمرجعيتها لا يحمر وجهها أمام الأخرين ولا تشعر بالخجل، تنتصر، تتخذ من العقبات أرضية انطلاق نحو الأمام.
إنه فقيد الجزائر الدكتور الشيخ بوعمران، الذي غيبه عنا الموت، ظل يقاوم المرض إلى أخر نفس. رحل الفقيد تاركا لنا رصيدا علميا ومعرفيا يعوّل عليه في تزويد الأجيال بفكر ناصع يرسم الطريق للحاضر والآتي. فكر ينم عن اعتدال ووسطية ترسخت في ذهنية العالم الجليل المفكر البديع، اكتسبها نتيجة التزاوج بين النظرية والممارسة المؤسسة للمعادلة المعرفية في زمن كثرت فيه الاجتهادات وتداخلت وتناقضت دون معرفة أسسها وفصولها، كل مروج لها يدعي إنه الأصح مالك الحقيقة المطلقة.
وزاد هذا التوّهج والجدل من خلال منابر فضائيات تتسابق من أجل الترويج لإيديولوجيات ومذاهب فقهية دون فتح المجال للاجتهاد، الذي يعد أساس فكر الاعتدال. زاد في هذا التوجه موجة من الفكر المروج للتطرف والمغالاة، لا يعطي قيمة للأوطان ولا يضع في الحسبان المرجعيات والأسس الدينية الإسلامية المبنية على التسامح والتعايش والجدل بالتي هي أحسن، بعيدا عن التشكيك في كل شيء ووضع من يخالف الرأي والطرح في خانة الفكر التكفيري وما يصطلح عليه “الجهادي”.
عكس هذا التوجه، اختار الشيخ بوعمران الذي تولى حقائب عدة، منها وزير الاتصال والثقافة في بداية التسعينيات، بعد وظيفة مستشار بوزارة الثقافة، نهج الوسطية في منافشة أي فكر ثقافي إسلامي، مشددا على أهمية الاجتهاد وعدم قبول الآراء الجاهزة والصورة النمطية، التي تؤسس للمغالطات وتفتح المجال للتطرف والعنف. وهو فكر واجهه العلامة خريج جامعة السوربون في أواسط الخمسينيات مرافعا لحوار الأديان لتسامحها وتعايش الثقافات مضطربا المثل، جاعلا من ذاته مرجعية في مخاطبة الآخر والتفتح على على آرائه وعدم غلق المنافذ والأبواب بدعوى الحماية.
إنها أفكار وردت على لسان فقيد الجزائر طيلة مساره، تترجمها الكتابات المؤلفة، والمداخلات من أعلى المنابر أثرت المشهد الثقافي وزادته انتعاشا وحركية، آخرها منتدى الأمن الذي كرم الشيخ في أعز ذكرى وأنبل محطة: يوم العلم. بهذا التمايز سكن الراحل قلوب الجزائريين، ورسّخ في أذهانهم روح الوطنية وقيم المواطنة، التي لا تزول مهما غاب مروجوها عن الأنظار.