القاسم المشترك

سعيد بن عياد
02 ماي 2016

قطعت الصحافة الوطنية، بكافة توجهاتها وانتماءاتها الفكرية والإيديولوجية، مسارا معتبرا على درب تكريس حرية التعبير التي يكفلها الدستور وقد رسّخها في تعديلاته الأخيرة، قناعة بأن هذا المكسب قاسم مشترك للمجموعة الوطنية وضمانة لمواصلة بناء الديمقراطية بكل ما تحمله من قيم المواطنة الصحيحة القائمة على دولة القانون وتكافؤ الفرص ونبذ العنف ومكافحة التهميش والإقصاء، من خلال تنمية ثقافة التسامح والشفافية والعدالة والتضامن وحمل روح الانتماء للجزائر، كما تضمنها بيان أول نوفمبر، الذي يضع السيادة الوطنية برصيدها التاريخي وعناصر الهوية المتكاملة في منأى عن أيّ تلاعب أو متاجرة، مهما كانت التحديات التي تعترض المسيرة الوطنية والصعاب الظرفية التي تطرأ من فترة لأخرى بحكم التغيرات التي تمر بها الأمم والمجتمعات وحتى العالم. وكلما تحققت أشواط، وبعضها بمرارة تضحيات وكلفة اقتصادية واجتماعية خاصة في سنوات الهجمة الإرهابية خلال تسعينيات القرن الماضي، كلما برزت في الأفق تحديات أمام الإعلام الجزائري الذي يجد نفسه في كل مرة أمام تحديات أشبه باختبار يتطلب الارتقاء إلى مستوى المسؤولية التي تضع الوسائط الإعلامية في مرتبة أكبر بكثير من كونها أدوات هشة تديرها لوبيات وجماعات مصالح خفية أو مجرد متاجر تخضع بشكل أعمى لمعادلة الربح بأيّ ثمن ولو بالتنكر لقيم إعلان ميلادها الأول وبالذات نقل الكلمة الحرة وتحري الحقيقة والدفاع عنها بإسماع صوت المستضعفين دون مقايضة أو رهن تلك المهمة النبيلة بممارسات السوق التجارية ومن ثمة التنازل عن كل ذلك الرصيد بذريعة الصعوبات المالية أو قلة الإشهار.
وكم من وسيلة إعلامية لطالما تغنّت بأنها الأكثر مبيعا وتملك السوق، انزلقت في لحظة البحث عن الثراء لتقع في قبضة سلطان المال، الذي تبين أنه يفعل بحرية التعبير كما يفعل الساحر بضحيته.
إن حرية التعبير كلٌّ لا يتجزأ ومن ثمة لا يعقل بأي شكل من الأشكال أن يحولها البعض، انطلاقا من مقولة “حق يُراد به باطل”، إلى وسيلة ابتزاز أو مطية لتصفية حسابات البعض ضد البعض الآخر، أو خنجر يحرك عن وعي أو بدون وعي في جروح بدأت تندمل، أو معول لهدم الجدار الوطني الذي بُني على عاتق أجيال متعاقبة من خلال نشر ثقافة التشكيك أو ترويج الإشاعة أو الانتصار لقوى معينة فقد بعضها مراكز نفوذ مختلفة أو تبخّرت طموحات بعضها الآخر ممن تعودوا على استباحة الرأي العام بالتغليط أو التلاعب بالمعلومات.
ووسط مناخ متداخل يهيمن فيه الرأسمال، من الطبيعي أن تتعرض أكثر من وسيلة إعلامية لكبوة، لعل أمرّها أن يتحول بعضها إلى لعب أدوار يفترض أنها من مهمة أطراف أخرى تنشط في الساحة. في هذا الإطار، يصعب تفسير قيام وسائط إعلامية بوظيفة حزب أو منظمة أو مجموعة مصالح فتحل محلها وتتبنّى خطابها، إلى درجة التحول - للأسف - إلى مجرد أداة طيّعة تنفذ استراتيجية معينة لا مكان فيها لمنظومة القيم وأخلاقيات المهنة التي تضيع في زحمة السوق بين البحث عن الربح وفاتورة الخسارة التي يتلاعب بها المقايضون والسماسرة ممن اختلط لديهم الأمر بين الاستثمار فأعماهم اقتصاد السوق إلى درجة تحويل حرية التعبير إلى مجرد سلعة تباع وتشترى، دون اعتبار لتضحيات البعض ممن باعوا كل شيء من أجل الكلمة الحرة والصوت المسموع والقلم النظيف.
لذلك، لايزال أمام حرية الصحافة المجسّدة لحرية التعبير، التي يحاصرها محيط صعب وسريع التحول، الكثير من الجهد والعمل وفقا لمتطلبات المهنة لتحصينها وإعادة ترميم أوضاعها حتى لا تذوب في سوق فقدت أخلاق التجارة بفعل هيمنة المال ونفوذ الإشهار، خاصة الذي تسوّقه شركات تشعر أن مصالح بلدانها تتراجع أمام الموقف الوطني الصريح الذي لا يساوم بشأن السيادة الوطنية ونصرة قضايا عادلة لشعوب مضطهدة تحرص على إخضاع الصحافة أو بعضها لمشاريع “ميركانتيلية” أو لتوجهات لا أثر فيها لمصلحة المواطن العادي الذي يتطلع دوما للبحث عن الحقيقة وتحري مضامينها، مرتكزا على صحافة احترافية تقول للمحسن أحسنت وللمسيئ أسأت ويكون القارئ الذي يملك مقوّمات الفرز ويستشعر التطورات خير حارس لها وأول مدافع عنها، حينما يتأكد أن وسيلته الإعلامية أكبر من أن تكون “حصان طروادة” في يد جهة غامضة تقودها حيث لا مصلحة له، أو تقحمها في ملفات دولية، على غرار تغذية نزاعات تستهدف الدولة الوطنية وهي قضايا يملك فيها الشعب الجزائري موقفا مبدئيا عنوانه، عدم التدخل وتأييد الشرعية الدولية.
وطبيعي أن تزف في العيد العالمي، أسمى آيات التقدير لأولئك الذين سطّروا الطريق أمام الكلمة الحرّة منذ مقاومة ومكافحة الوجود الاستدماري، لتستعيد الجزائر سيادتها كاملة ويدرك الإنسان على امتداد سنوات الاستقلال معنى الحرية بمفهومها الشامل حريصا على وحدته وانسجامه وتنوعه الثقافي في اتجاهه إلى المستقبل لمواجهة التحديات وكسب الرهانات مرتكزا على إعلام وطني جريء ومسؤول يجيد قواعد اللعبة الديمقراطية التي يتحول فيه الدفاع عن حرية التعبير إلى مهمة شاقة أكبر من مهمة بلوغها الأولى، وهي المهمة التي أنجزتها أجيال متعاقبة دفعت ثمنا باهظا كلفها في مراحل صعبة لقمة عيشها دون أن تتخلى عن التزامات مهنة المتاعب، كما توصف تقليديا، يتقدمها البحث عن الحقيقة والحرص على الدقة وتوخي المسؤولية، بالنظر لمصلحة الوطن وشعبه، خاصة في مواجهة ما يحاك في دوائر أجنبية لا تتردد في الاستفزاز أو مهاجمة بلد يستعصي عليه أو تعطيل مسيرته التي يتقدمها الإعلام بكل ألوانه الفكرية والانتماءات السياسية التي تبقى الاحترافية الضامن لتجاوز انحرافات وانزلاقات سببها الأنانية والخروج عن المألوف الاجتماعي لمنظومة القيم والأخلاقيات التي تبقى الدرع الواقي لحرية الصحافة.

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19523

العدد 19523

الأحد 21 جويلية 2024
العدد 19522

العدد 19522

السبت 20 جويلية 2024
العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024