مازلت أحن إلى عرض مسرحي موضوعه حكايات الزمن الجميل، يرسخ ويمجد ذلك الغنى الباهر بالقيم والتراث بنوعيه، نستمتع من خلاله بصنعة الموروث، ومن أهازيج وأغاني عيسى الجرموني، وبقار حدة، البار عمر، قصائد بن قيطون وعبد الله بن كريو ولخضر بن خلوف نغوص في فتراتهم المتباعدة، نعيد رسم حاضرهم الماثل أمامنا على ركح المسرح. نسرق بعض ساعات من هذا الزخم الثمين.
نرسم لهم في المخيلة أوجها ترافق حاضرنا، نصنع من ملامحهم دروس المجد والسعادة نلامس أشياءهم وملامح وجوههم، على ترانيم اللوحة الفنية بجمالها وابداعها، نتحدث إليهم من خلال الألوان، لعلّ صوتنا يصلهم قبل أن تنطق رسوماتهم بحديث كلمات لا تشبه الكلمات.
أو قد نقرأ حياتهم في روايات كتابنا وفي أشعار مبدعينا، نرّوح على أنفسنا عبر أبيات الشعر نذهب للأمكنة، فلا نغادرها ولا تبرح منا قيد أنملة، القراءة والتمعن سمة لا يفقه سرها إلا موبوء من نصوص الكلام.
في الحكايات القديمة قرب الجدة وفي الشتاء، أين توقد النسوة زمهريرا من الحطب، نستأنس منه مشكاة الضوء، نواصل الاستماع إلى قصص عنترة العبسي وزيد الهلالي ولونجة بنت الغول وسعيد معشوق حيزية، وكثيرا من قصص ألف ليلة وليلة، كانت الجدة موسوعة متنوعة بامتياز وفي درجة كبيرة من الثقافة الشفوية لا تضاهيها الكثيرات في زمننا اليوم حتى وان جمعت بين الخرافة والحقيقة فإننا ننام مباشرة إلى الغد.
تنزوي الفتيات في أقصى زاوية من البيت، ينسجن تعاويذهن على سداية خشبية، يصنعن من أناملهن برانيسا وأغطية تشبه الزرابي المبتوثة وغيرها من الإبداعات الصوفية التي تروي أساطير أقوام خلت، تؤرخ لحقبات زمنية من خلال الألوان، فتوصف الخيمة السوداء والحمراء ببيت النمامشة، أما تلك التي يغمرها الأبيض، فلا شك أنها نايلية بامتياز وليس في ذلك أدنى شك، في الحين توصف السوداء المائلة إلى اللون البني ببيت البدو الرحل.
فسيفساء متنوعة وغنية غنى الجزائر، ثقافات متداولة من زمن لآخر، لم تلغها العولمة ولا العصرنة ولا العالمية هذه التي جعلت العالم قرية صغيرة، تراثنا هو وجهنا الأخر.. الوجه الذي نحافظ عليه ما حيينا، كما حمل الأولون مشعله نحمل نحن مشكاته ذات النور الساطع، فليس عيبا أن نأخذ من ثقافات الشرق أو الغرب، لكن العيب أن نصير عبيدا لهذا الأخذ فننسلخ عن ذواتنا ونسقط في التبعية إلى أرذل العمر.