في كل مرة يعود فيها تاريخ 19 مارس 1962 إلاّ وتتعالى أصوات تدعي أن هذه المحطة نكرة لا تستحق التوقف عندها أي أنه لم يكن يوم نصر بل مجرّد استسلام جاء بعد محاصرة فرنسا للثورة الجزائرية وخنقها والقضاء على كل جيوبها.
لم يعد خافيا أن الهدف من هذه الرواية المشوهة للتاريخ والوقائع هو بث الروح الانهزامية الناجمة عن عقد النقص المعشّشة في دواخل منظريها الذين لم يقتنعوا بعد أن فرنسا التي لا تهزم – حسبهم – جرّت ذيول الهزيمة ورحلت عن الجزائر ولم يكن ذلك من اختيار الجنرال ديغول ولكن معطى فرضه منطق البندقية وقوافل الشهداء الذين ركّعوا أعتى قوة استعمارية واضطروها إلى الجلوس صاغرة على الجهة المقابلة من الطاولة مع جبهة التحرير الوطني في أرض محايدة من أجل التفاوض ندا لند لوضع حد لسبع سنوات من المواجهة والاقتتال بين جيش التحرير الوطني والجيش الفرنسي المدعوم من الحلف الأطلسي.
إن مجرد رضوخ فرنسا لمنطق المفاوضات مع وفد جبهة التحرير الوطني يعتبر في حد ذاته انتصارا للشعب الجزائري ولثورته التي استطاعت أن تملي شروطها من أجل وقف الأعمال القتالية و بهذا يتبين أن الذي انهزم معنويا في هذه المعادلة هي فرنسا التي كانت تنتظر يائسة أن ينزل مجاهدو جيش التحرير مهرولين من الجبال و هم يحملون الرايات البيضاء لتسليم أسلحتهم و طلب العفو و المغفرة من الجنرال ديغول في حين أن الذي حصل أن هذا الأخير ظل يعرض الاقتراحات بل التنازلات الواحدة تلو الأخرى - كبائع قماش- لعلها تلقى القبول لدى جيش وجبهة التحرير الوطني بعد أن فشلت كل المخططات الجهنمية التي أطلقها بداية من 1958 من أجل القضاء على الثورة، ولم يبق له في الأخير إلاّ الرضوخ إلى الأمر الواقع، بينما حاول أن يعطي الانطباع أنه حمامة سلام جادت علينا بهدية الاستقلال - في حين شهدت فترة حكمه أشرس و أبشع الحملات العسكرية الفرنسية ضد الثورة- وعندما فشل في ذلك بحث له عن مخرج من تلك الورطة كان طوق النجاة الوحيد لانتشال نفسه من الغرق وإنقاذ جمهوريته الخامسة من الانهيار هو طلب الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع خصم لم يستطع النيل منه عسكريا.
الأكيد أن الرواية الديغولية انطلت على الكثيرين ممن مازالوا يرددون إلى اليوم مقولة مفادها أن ديغول هو الذي منح الاستقلال للجزائر وهذه أكبر إهانة للشعب الجزائري وخيانة للشهداء الذين آمنوا بالجزائر وماتوا من أجلها.