إن الأوضاع التي تعيشها المنطقة العربية منذ أحداث “الربيع العربي” أو كما سوقته وسائل الإعلام الغربية و العربية تبين أنه لم يكن في حقيقة الأمر إلا مسارا محكما لتفكيك الدولة الوطنية العربية وتقويض أسسها للسماح بتنامي شروخات الإثنية، الدينية والثقافية داخل كل المجتمعات العربية بعد أن استطاعت الدولة الوطنية لعقود أن تكون البوتقة التي استوعبت كل تلك الاختلافات في صيغة دولة يكون فيها الولاء للوطن وحده وليس للعشيرة أو الإثنية ... الخ و هذا طيلة القرن العشرين وبداية القرن 21 .
كما اضطلعت هذه الدولة رغم ما شابها من نقائص وأخطاء بحماية الثروات الوطنية والسماح للشعوب العربية من الاستفادة من ريعها من خلال عمليات التأميم التي عرفتها الكثير من الدول العربية و من بينها الجزائر وهي عمليات كان الهدف من ورائها إحداث قطيعة بين الاقتصاد الاستعماري والاقتصادات الوطنية الناشئة بتحريرها من قبضة واحتكار الشركات الرأسمالية الكبرى التي حافظت على قبضتها محكمة على شؤون المال والأعمال داخل تلك الدول حتى بعد حصولها على استقلالها السياسي بانسحاب الإدارات والجيوش الاستعمارية.
لا يختلف اثنان على أن التطور و الرفاه الذي تنعم به الدول الاستعمارية التقليدية هو ثمرة قرون من نهب واستغلال الخيرات والمقدرات المادية والبشرية لمستعمراتها السابقة في قارات إفريقيا، آسيا وأمريكا اللاتينية وفق سياسة اقتسام مناطق النفوذ والهيمنة وهو المنطق الذي سجل عودته بقوة إلى أبجديات القوى الاستعمارية التقليدية وأصبح محددا لسلوكها الخارجي، سيما في ظل الأزمة التي يعيشها النظام الرأسمالي العالمي الذي لم يعد من الممكن إنقاذه إلا من خلال معاودة غزو واستعمار تلك الدول والاستعمار يدرك أن ذلك لن يكون ممكنا إلا بضرب الدولة الوطنية العربية التي جاءت تتويجا لنضال حركات تحررية وطنية شكلت النواة الأولى لهذه الدولة.
إن الوضع الذي آلت إليه الأمور في ليبيا منذ العدوان الفرنسي الأطلسي على هذا البلد سنة 2011 بحجة حماية المدنيين من بطش العقيد القذافي وكتائبه لم يكن الهدف من ورائه إلا إغراق هذا البلد في أتون الفوضى كمرحلة أولى ثم توسيع الهوة بين الشعب الليبي من خلال اللعب على الورقة الانثروبولوجية المبنية أساسا على منطق القبيلة ليكون بديلا عن مفهوم المواطنة في مجاله الأوسع في إطار دولة يكون المعيار الوحيد فيها هو المواطنة دون اعتبارات أخرى.
والمشهد الليبي يثبت بكل أسف أن منطق القبيلة، الجهة و الإثنية عرف انتعاشا كبيرا و المخاوف اليوم هي تقسيم ليبيا إلى دويلات وفق هذه الاعتبارات التي تعمل الدول الغربية الاستعمارية على تغذيتها ليسهل الانقضاض مجددا على هذه الشعوب المفككة والمنهكة والفاقدة للبوصلة والاتجاه والمشاهد البائسة للاجئين السوريين، العراقيين والليبيين إنه يراد لنا أن نكون مجرد حشود بشرية لا عنوان لها ولا هوية تقتات على فتات المساعدات (الإنسانية) التي قد نتقاتل كالحيوانات من أجل الحصول على شيء منها حتى نبقى على قيد الحياة.