مثلما وعد به في آخر مجلس وزراء، عن إصدار نصوص تشريعية وقوانين استكمالا للإصلاحات السياسية، ها هو رئيس الجمهورية يجسد التزاماته في الميدان، مطمئنا الجزائريين السعي الدائم لتعزيز دولة المؤسسات، التي تتسع للجميع.
دولة متفتحة على مختلف الآراء والتوجهات، شرط احترام الرأي الآخر وإعلاء مصلحة البلاد، ووضعها فوق كل الحسابات. دولة تتعدد الرؤى، وتتفق حول النظرة الاستشرافية التي تؤّمن الجزائر من أي طارئ، وتبقيها عالية الشأن والهام، تتنافس القوى السياسية على أقوى البدائل وأكثرها متانة ومناعة في الذهاب إلى ما هو أفيد وأصلح، وليس التمادي في حملات تشويه صورة البلاد وتغرس ثقافة التيئيس وكلامولوجيا “كل ليس على ما يرام”، أو «أنا وحدي أملك الحقيقة، ومن يخالفني ويعارضني فهو ضدي»، مثلما تتبعه بعض أطياف المعارضة للأسف، وتتمسك به في موقفها من أسمى القوانين ، وأمهاتها، ومصدر تشريعها على الاطلاق.
جاءت مصادقة البرلمان بغرفتيه في الدورة الاستثنائية، لوضح حد للجدل العقيم الذي طغى على الحياة السياسية. فكانت الوثيقة التي حظيت بمصادقة أغلبية الأعضاء ترجمة حقة لمرحلة شرع فيها من أجل جزائر جديدة، لا مجال فيها للمضاربة الكلامية وترديد الشعارات الجوفاء واعتماد قاعدة “خالف تعرف”.
جاءت الوثيقة التي كانت محور مشاورات متسعة مفتوحة للشخصيات الوطنية، ممثلي الأحزاب والجمعيات، متضمنة لمقترحات مختلف القوى المشكلة للأمة، معبرة عن طموحات ضمير وتطلعات وانشغالات مجسدة لعقل جمعي، مثلما يعبر عنه أساتذة علم الاجتماع. إجراءات ومكاسب جديدة توقف عندها المحللون، وأهل الاختصاص في القانون الدستوري، منها ما تعلق بتعزيز دولة القانون ومهام السلطات، توافقها وتكاملها وليس انفصالها مثلما يروج، منها ما يخص حماية الحقوق وضبط التعددية الديمقراطية. ومنها ما تدور حول ترسيخ المبادئ العامة التي تحكم المجتمع الجزائري وحقوق الإنسان والمواطن، ولا تمس بأية صلة بتوازنات السلطات والمؤسسات الدستورية.
الدستور الجديد، الذي حظي بمصادقة البرلمان، محطة جديدة في مسار الجزائر الديمقراطية، التي تبني تجربتها بتأن وبصيرة، جاعلة من متاعبها واختلالتها قوة انطلاق نحو الأمام، متخذة من ماضيها محطة مفصلية نحو التغيير في ظل الثوابت، وهي ثوابت تصدرت وثيقة أسمى القوانين وتبوأت مكانة متميزة في ديباجتها، تظهرها ما سجل من تقدم ملحوظ في تعزيز الوحدة الوطنية حول تاريخ البلاد، وما يتوجب فعله من تدوينها حماية للذاكرة الجماعية. تظهرها كذلك ما سجل من اهتمام بالغ في التشديد على الهوية الجزائرية بثالوثها المقدس الإسلامي العربي الأمازيغي، وقيمها الحضارية الضاربة في الأعماق والتاريخ الإنساني قاطب.
الدستور الجديد يحمل قيمة مضافة للممارسة السياسية وتعدديتها المفتوحة على التجدد والتقويم وضمانها للمعارضة صلاحيات ودور موسع، يمكنها المشاركة بمسؤولية في البنى الديمقراطي وترقية العمل التشريعي، بما في ذلك إخطار المجلس الدستوري.
وهذا ما يثبت بالملموس أن الدستور المعدل، الذي بادر به القاضي الأول للبلاد أخذ في الاعتبار المراحل التي قطعتها الجزائر في البناء الوطني والتعددية. راعى انشغالات الطبقة السياسية ومطالب ممثلي المجتمع المدني في المرور الحتمي بالبلاد إلى عهد دولة المؤسسات والقانون والحكم الراشد، قوية متينة بمكاسبها وإنجازاتها، متماسكة بجبهتها الاجتماعية التي لا تهتز تحت أي طارئ وأزمات.