بات في ظل أزمة الموارد وانهيار أسعار النفط الذي أسفر عن تراجع رهيب في الإيرادات، لا مفر من التوجه إلى مصدر واحد لا ينضب إذا تم استغلاله بالشكل الجيد لبناء مسار من شأنه أن ينقذ الاقتصاد الوطني من التداعيات على المديين المتوسط والبعيد، ويقلل من الأضرار والخسائر التي يتكبدها. يتعلق الأمر بالمورد البشري الخام وتنميته بالشكل المطلوب الذي صار اليوم الحلقة القوية في المنظومة الاقتصادية سواء على صعيد إعداد ملفات الاستثمار أو في إنتاج القيمة المضافة وعصرنة التسيير والرفع من تنافسية المنتوج، فالعنصر البشري وحده قادر على التحكم في الإنجاز وتقليص الكلفة والرفع من جودة كل ما يطرح في الأسواق وإيجاد حلول للتحديات التي تواجهها الآلة الإنتاجية كونها تتطلع لتوسيع نسيجها وتقوية تواجدها.
إن الأولوية التي صار يكتسيها العنصر البشري تحتم على المنظومة التعليمية مراجعة مناهجها وبرامجها بما يستجيب للمحيط الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والثقافي، حتى تدرك الجامعة ومعاهد ومراكز التكوين أنها معنية بالمشاركة في إنتاج القيمة المضافة، وتولي عناية بالذكاء الإنساني وتفجير طاقات الشباب، لكن وبالمقابل يجب على المؤسسة الاقتصادية والمستثمرين أن يلعبوا دورا في تقليص الهوة وتجاوز القطيعة مع الجامعة بل والتنسيق من أجل الاستفادة من الكفاءات من خرجي الجامعات وكذا المنتسبين لمراكز البحث العلمي، حتى تبتعد المؤسسة الإنتاجية عن الطابع التجاري وتستثمر حتى في الثروة البشرية التي يمكنها حل مشكل تأهيل المنتوج وفرض التنافسية المنشودة.
ولا شك في أن بناء جسور التواصل القوية بين الجامعة ومراكز البحث مع المؤسسة الإنتاجية مع التركيز محليا من شأنه أن يقدم الإضافات المنتظرة والتي يحتاجها الاقتصاد الوطني، فالمستثمر المحلي يحتاج في مجال الفلاحة إلى البذور الجيدة والاستغلال الأمثل للأرض والثروة الطبيعية الموجودة في حيازته، والمستثمر السياحي يجب أن ينجح في تكريس التسيير الناجع والترويج الفعلي للمنتوج السياحي، فيما يواجه المستثمر الصناعي تحدي التحكم في معايير الجودة وطرح منتوج جذاب أي أقل كلفة والأحسن من حيث النوعية وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الاستغلال العميق لذكاء الثروة البشرية.
وفعلا تبدأ الانطلاقة اليوم من الثروة البشرية التي يجب أن تتصدر الاهتمام ويجب أن تكون في عمق الرهان الاقتصادي، فالمعركة بين الدول المتطورة اليوم تكمن في التحكم التكنولوجي والابتكار التقني الذي ينشئه الإنسان بذكائه وقدراته الخلاقة، بينما أدركت الدول الناشئة جيدا أن بالقدرات البشرية يمكن اللّحاق بركب الدول الأكثر تطورا، وتحقيق الرفاه لشعبها وتحقيق استقلالها الاقتصادي الذي لا ترهنه لا واردات ولا مديونية وغير مربوط بثروة طبيعية.
والأكيد أن الجزائر جد محظوظة كونها تملك العديد من البدائل والثروات المتنوعة سواء الدائمة وتلك التي تنضب، ويبدو أنه لكل مرحلة ثروتها، ويكفي فقط أن يعرف كيف توظف الإمكانيات، ولعل قدرات الكفاءة الجزائرية معترف بها عالميا، ولعل الحد من هجرتها وتشجيعها على العطاء لبلدها يجب أن يتجسد من خلال تحسين ظروف المحيط الذي تنشط فيه وتجاوز بعض سلوكيات التجاهل والتهميش التي قد تثبط من همته وتنفره من مكان عمله، وصاحب القرار الاقتصادي يعد أول جهة مطالبة بوضع الثقة في الكفاءات الجزائرية الشابة، لأن الذكاء الانساني مفتاح معركة النمو.