النّقاش الاقتصادي الدّائر حاليا حول أسعار البترول يلفّه الكثير من التّهويل، إلى درجة أنّ بعض الأصوات ذهبت إلى حدّ الدعوة إلى الاستدانة من المؤسّسات المالية الدولية، دون مراعاة الموقف الجزائري من مثل هذا “الخيار” المستبعد من كل تفكير، وغير مطروح بتاتا كفرضية من ضمن العديد من الفرضيات لمواجهة وضع كهذا.
ولم تنف أبدا السّلطات العمومية بأنّ هناك تراجعا في موارد البلاد، ممّا أثّر على الحلقات الأخرى من حيث النّظرة المتعلقة بالتّسيير المالي للقطاعات الإستراتيجية، والمشاريع التنموية خاصة تلك التي لها علاقة مباشرة بالعملة الصعبة.
وفي مقابل ذلك، فإنّ هناك إجراءات اتّخذت في هذا الشأن للتحكم في المنظومة المالية، والعمل وفق رؤية مخالفة لفترة ما قبل الأزمة، وهناك خطاب جديد في هذا المشهد، يظهر التكيف مع هذه المستجدات منها “التمويل الذاتي”، الذي يستعمل لأول مرّة فيما يعرف بالتركيب المالي، وهذا ما ينطبق على الميناء الجديد بالحمدانية كتجربة حديثة في حوليات التكفّل بالمشاريع خارج إطار الخزينة العمومية كما اعتدنا عليه، وهذا في حدّ ذاته استثناء قد يعمّ على باقي النشاطات الأخرى في حالة التأكّد من جدواه من الناحية العملية حتى لا يصطدم هؤلاء بمواقف غير متوقّعة. غير أنّنا نعتبر بأنّها تجربة رائدة تحتاج المزيد من التشجيع، والأكثر من هذا تحدّ يتطلب الأمر رفعه مهما كان الأمر، لأن الأزمة تلد الهمّة، وعلينا توظيف كل الكفاءات المعرفية القادرة على خوض هذا المعترك بنجاح، والتخلّص من كل تبعية للبترول.
لذلك فإنّ هذا الجدل القائم في الوقت الرّاهن لا يقدّم الحلول، وإنما سقط في التشخيص قابله الإفراط في الحلول السهلة، منها اختبار بالون الإستدانة المرفوض قطعا من قبل السلطات العليا في البلاد،
لأن الكثير من الخبراء والأساتذة وحتى الآراء العادية تشدّد على أنّ هامش المناورة ما زال متوفّرا لدى صانع القرار، ولا داعي لكل هذا التهويل الذي تجاوز منطق الموضوعية في التناول، وذهب إلى نقاط لا أساس لها من الصحة من الناحية الإقتصادية البحتة.
وعليه فإنّ توجّه المحلّل الإقتصادي ليس نظريات أكاديمية ومراجع جامعية، لأنّ الواقع شيء آخر وقد تحدّث الخبير الاقتصادي سمير أمين في هذا الإطار عن تحديده لمفهوم الأزمة الهيكلية، لسنا في هذا المستوى بدليل أنّ هناك بدائل يجري العمل بها منها “التنويع الإقتصادي” أي بمعنى الخروج من حالة واقتحام تصوّر آخر، هذا لا يأتي بين عشية وضحاها، لكن يستدعي أولا استحداث ثورة على مستوى الذهنيات على أننا نسيّر أوضاعنا بالأموال المتوفّرة لدينا، ويكفينا من استعمالها هنا وهناك. والذهاب إلى الإستدانة هو فعل سياسي أكثر منه اقتصادي، لأنه ضمنيا يضعك تحت طائلة المساس بالقرار السيادي، هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن من دخل هذا الصندوق لا يخرج سالما منه، كونه أخطبوط يلتصق في كل مفاصل المؤسسات.
وما تزال تلك الصّور لمرحلة التسعينات لاصقة في أذهان الجزائريين، على ضوء ما قام به صندوق النقد الدولي من ضغوط رهيبة على هذا البلد، مقترحا برنامجا مرعبا قصد تصحيح وتعديل وضع إقتصادي معيّن إنطلاقا من خارطة طريق قاسية جدّا بدأت بإعادة جدولة الديون، تلاه مباشرة إجراء غلق المؤسسات وتسريح العمال وتقليص الموظفين، ومقابل ذلك تم إنشاء الصندوق الوطني للتأمين على البطالة، الذي كان الآلية التي أريد لها أن تواجه هذه الصدمة
وامتصاص الآثار المترتّبة عنها بضمان للعامل المعني بالتسريح تعويضات مالية.
هذا التّذكير ضروري بالرغم من أنّ الجزائر ليست في تلك الحالة، لكن ليعلم جيّدا دعاة الإستدانة أن الأمر ليس سهلا كما يعتقدونه، فقرار الذهاب إلى “الأفامي” يتطلّب القبول بشروطه المجحفة وغير الإنسانية أحيانا.
ولم يتوقّف هذا النّزيف الحاد إلاّ بمجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي وضع ضمن أولوياته محو الديون، وهذا ما حصل بالفعل والرقم اليوم يتضاءل إلى أدنى المستويات، بل أن الجزائر منحت لهذه المؤسسة المالية ٥ ملايير دولار.
وكل التّوصيات الصّادرة عن الوفد التابع لصندوق بخصوص الجزائر خلال زياراته الأخيرة كانت تجري في ظل الإحترام المتبادل، ولم تنتظر الجزائر أي إملاءات، وإنما شرعت منذ فترة في توفير مناخ أعمال لائق والتنويع في الاقتصاد، والقصد من ذلك الإستثمار وعدم الإعتماد على مصدر المحروقات.
وبالنّسبة للسّلطات العمومية، فإنها فصلت في هذا الأمر وهو عدم الذهاب إلى الإستدانة مهما كانت المداخيل، وهذا حفاظا على النّسق العام لأداء الجهاز التّنفيذي وتفادي أي خلل في السياسة المتبعة إزاء المنظومة المالية.