مدننا السّاحلية والدّاخلية لا تتوفّر على “ثقافة النّشاط ليلا”، على أقصى تقدير السّاعة السّابعة مساءً يغلق جلّ التجار محلاّتهم، مفضّلين الخلود إلى النّوم والاستفادة من الرّاحة ليوم جديد إلا القلّة القليلة التي يبيع أصحابها الشّاي والمكسّرات.
وبالرّغم من محاولات السّلطات العمومية اعتماد تجربة “مدن لا تنام”، إلاّ أنّ هذا لم يسر للأسف نظرا لعدّة اعتبارات، أهمّها عدم تعوّد هؤلاء على العمل ليلا، زيادة على غياب الجمهور في ساعات متأخّرة من الليل، خاصة في فترة الشّتاء ليجد المواطن نفسه رهين قانون مفروض عليه عندما تطأ قدميه ولاية من ولايات الوطن، وفي وقت تجاوز الأمسية.
إنّه إشكال حقيقي لا نعي أبعاده الحضارية، وحتى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذا بعد أن أصبحت “العادة طبيعة ثانية”، والأمور عادية جدا يدفع ثمن ذلك المواطن، الذي يصل أحيانا إلى منطقة معيّنة من الوطن في فترات خارجة على نطاقه لا يستطيع التحكم فيها.
وهكذا يجد زوّار للولايات في إطار مهمّات عمل مكلّفين به، أنفسهم عرضة للبحث عن مأوى للمبيت ومطعم للأكل، ونقصد بذلك هياكل الاستقبال والخدمات التي ينتظر منها الكثير في الوقت الرّاهن، لكن للأسف تمّ إهمال هذا الجانب وعدم التكفل به. ويلاحظ ذلك عندما حلّت النّظرة التّجارية البحثة محل الرؤية الخدماتية المتوجّهة للصّالح العام، وهذه المقاربة هي التي أدّت بنا إلى الخروج عن هذا الخط السّالف الذّكر.
وعليه فإنّه من الأجدر إعادة النظر في هذه الممارسات المخالفة للفعل التّجاري المتعارف عليه في كثير من عواصم ومدن عالمية، التي لا تنام حقّا، ففي أي وقت يمكنك اشتراف فنجان قهوة أو التمتع بكأس من العصير، ولا يوجد في ذهن الفرد أو المرء أي قلق نفسي.
هذا ما نريد الوصول إليه في الجزائر، أي إقامة علاقات تجارية وخدماتية جديدة مغرية تجلب إليها سواء المواطن عندما يقصد الولايات أو الأجنبي الذي يتوافد على بلادنا من أجل شتى الأشغال، ولا يتأتّى هذا إلاّ باعتماد سياسة جديدة شغلها الشّاغل هو البحث عن أفضل الصّيغ لإحياء مدننا ليلا.
وأوّل مبادرة في هذا الشّأن، التّواصل المباشر مع كل من ينشط في هذا الميدان، وهذا بتحسيسهم تجاه هذا العمل على أنّه للمنفعة العامة لا أكثر ولا أقل، والمطلوب أن يكون هؤلاء عند حسن ظنّ السّلطات العمومية في هذا المبتغى من خلال تعاون فعّال يؤدّي إلى النّتيجة المرجوّة، ألا وهي الابقاء على المحلاّت، المساحات التّجارية، المقاهي، المطاعم ومرافق أخرى مفتوحة ليلا لفائدة الجميع، بنزع تلك النّمطية التي اعتدنا عليها، أي غلق كل الهياكل على السّاعة الخامسة أو السّادسة، وأقصى ما يريده هؤلاء السّابعة كحدّ أعلى.
هذا إلى جانب تنصيب لجنة في هذا الاطار، تتكفّل بمتابعة جادّة لهذا القرار القاضي بفتح المحلات ليلا وفق اقتراحات عملية تكون على شكل مداومات على طريقة الصّيادلة، الذين يضمنون المناوبة إلى غاية الصّباح، كما يدخل في هذا الاطار تسهيلات لصالح التجار الرّاغبين في الفتح من جانب الضّرائب، ومزايا أخرى. كلّها تشجيعات لابد منها إن أردنا الغوص في هذا الأمر، لأنّنا لا نعتقد بأنّ هناك من يفتح من أجل الفتح أو استعمال أساليب أخرى هذا لا ينفع.
وكانت أوّل تجربة ببلدية الجزئر الوسطى، غير أنّه إلى غاية يومنا هذا لم يتجاوب التجار مع هذا المسعى للأسف، وبقي الحال على هذا المنوال، بدءاً من السّاعة الخامسة مساءً يغلق كل شيء، ماعدا جهات مازال يحنّ إليها البعض، منها “قاعات الشّاي” المعروفة، أما الباقي من المحلات فتنزل ستائرها في توقيت معين. هذا في العاصمة ماذا نقول في مناطق أخرى من الوطن؟! إنّها مسألة قناعة عميقة لدى المجالس الشّعبية البلدية والولائية في إدراج هذه الانشغالات ضمن أولوياتها، حتى وإن تطلّب الأمر وقتا نسبيا يقدّره التجار ريثما يتم الانتهاء من الملف من ناحية الجانب التّنظيمي خاصة، ويبرمج ذلك ضمن عمل متوسّط المدى قصد الاقتناع بالفكرة، وعدم رفضها من الأساس. قد يكون ذلك خلال الصّائفة القادمة مثلا، وكل هذه المرحلة تبقى للتّحضير وفق اقتراحات عملية تساعد الجميع حتى لا يستمر هذا الأمر في الاجترار دون إيجاد الحلول المرغوبة.