«الزعماء لا يموتون» هذه المقولة ثبتت صحتها في توديع الجزائر لأحد أبرز قاداتها التاريخيين الذين سبقوا زمانهم بانخراطهم المبكر في النضال التحرري مدركين بأن هذا الخيار يعد الوحيد لاستعادة السيادة الوطنية وإفشال مشروع فرنسا الاستيطاني . وهو مشروع بني على الأوهام والخرافات فجره الفكر التحرري لقادة الجزائر المسلحة منهم الراحل حسين آيت أحمد.
فرض آيت أحمد نفسه في المشهد السياسي طيلة مساره النضالي الذي لا يتوقف عند التاريخ والجغرافيا ونظرته الاستشرافية التي حملت مشروع بناء دولة المؤسسات التي لا تهتز تحت أي طارئ. مشروع يبنيى بالجميع معارضة وموالاة كل من موقعه وزاويته يعرض اقتراحات حلول لتعقيدات الظرف الآني والمستقبلي تتنافس فيه الأفكار وتتجادل بالتي هي أحسن بعيدا عن الغلو والتطرف والإقصاء واعتماد قاعدة «أنا وحدي أملك الحقيقة.»
كانت هذه الأفكار والرؤى التي تشبّع بها الراحل حدّ الثمالة وظلّ يقوم التقلبات من أجلها طيلة مساره النضالي أيام الثورة وفترة البناء محل اهتمام الخاص والعام. ورددت على لسان أكثر من شخصية ومواطن بسيط شارك في توديع آخر القادة الوطنيين الذين فجروا شرارة نوفمبر جاعلين من إخفاق الحركة الوطنية ووصولها إلى آخر مطاف قوة انطلاق نحو التغيير الثوري ومقارعة الواقع الاستعماري البليد بنظرة جديدة وتطلع لا ينتابه الشك ولا يحاصره الخوف والتردد.
كان حسين آيت أحمد من طينة الكبار. يدرك ما يجب فعله من أجل مواجهة مستعمر فرنسي تمادى في مغالطة الرأي العام بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان . ادعى عدم وجود أمة جزائرية في التاريخ . تنكّر للهوية والانتماء دون قراءة صحيحة للتاريخ الوطني الذي يعطي الدروس الحية لكل مستعمر وغاز بأن هذا الوطن الأمين اسمه «الجزائر» ويبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أفكار فقيد الجزائر حول التغيير الهادئ والبناء الوطني الذي يشرك فيه الجميع والمشروع الديمقراطي الذي يدمج فيه الجميع، هي محل تقدير كل من عرفه واستمع إليه واطّلع على مؤلفاته التي تظهر بحق آيت أحمد السياسي والمثقف. وتبقيه في أعلى المصاف محل الإعجاب والتفاني.
إنها أفكار ومبادئ سار عليها الدا الحسين وقاوم من أجلها، ورافع في سبيلها بداخل الوطن وخارجه مقتنعا بجدواها في البناء التعددي الديمقراطي الذي يحترم فيه الانسان وتصان كرامته وحريته. وهذه المبادئ التي تجعل من الزعيم حيّا دوما يتذكره الجزائريون بمختلف مشاربهم وحساسياتهم هي التي كانت محل إشادة وشهادة حية لما يمثله القائد من مكانة تجاوزت شهرتها وقيمتها الحدود.
إنها أفكار ومبادئ تجعل من آيت أحمد حيا في الذاكرة وفي القلوب يعترف له بوفائه لقيمه المثلى ، لأخلاقه وممارسته السياسية. بقى الدا الحسين مضرب المثل والاحترام من الجميع لأنه أعطى دروسا في الوطنية والوفاء للجزائر مهما كانت الظروف. عكس بعض وجوه المعارضة التي دأبت على السير وفق قاعدة «خالف تعرف» بقي آيت أحمد على نهجه، متمسكا بالتغيير السلمي الهادئ . لم يتفوه وهو «بالمنفى الاختياري» بأي شيء يمسّ وحدة الوطن أو ثوابته في وقت كانت تحاول جهات أخرى توظيف الأزمات واتخاذها ورقة لضرب الاستقرار والمتاجرة بأي شيء يدخل البلاد في متاهات الفوضى.
عكس هؤلاء أعطى حسين آيت أحمد المثل في الوطنية ولم يطل علينا من «بلاطوهات» الفضائيات للتفوه بأشياء تمسّ الوطن والديمقراطية التي يبنيها. لكنه ظلّ صامدا مستميتا في موقعه واضعا الوحدة الوطنية فوق كل حسابات كاسبا مصداقية وقيمة تجعلة حيا أبديا في ذاكرة الجزائريين.