حينما ارتبطت فلسطين بذاكرة الرجل

نورالدين لعراجي
10 نوفمبر 2015

أبو عمـار .. جبل لا تهزه الريح

..”جئتكم أحمل البندقية بيد وغصن الزيتون بيد أخرى فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي”، بهذه الكلمات المدوية اختتم الرئيس والمناضل أبو عمار خطابه الشهير في دورة الأمم المتحدة التي احتضنت القضية الفلسطينية سنة 1974.
هو الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، صاحب أطول مسيرة نضال لمكافح وشهيد قضية، حمل هم ثان القبلتين وأول الحرمين لوحده، لمدة تزيد عن الخمسة عقود ونيف، لم تغيره الظروف ولم تثنيه آلة الموت والتهديد والمعتقلات ولا سياط سجون  الاحتلال عن متابعة حقه المسلوب من الاحتلال الصهيوني.
جاء للدنيا متشبعا بالقيم المثلى والأخلاق النبيلة ، على غير عادة أقرانه من الأطفال، فصاحبته تلك البصمة، حتى وهو يسعى لانتهال وتحصيل العلم والمعرفة، فاحتك في مقاعد الدراسة مع التلاميذ اليهود الصهاينة، لتتولد لديه قدرة رهيبة  في اكتشاف معدنهم الحقيقي، المعدن الذي انتهى به إلى حقيقة لا يغيب عنها الشك، أن العيش رفقة المغتصب للأرض، لن يكون طريقا لسلام دائم، إلى غاية اصطدامه بالمظاهرات التي كانت تنظم في الأراضي المحتلة ضد توسعات تشهدها المنطقة  تتمادى فيها آلة الاحتلال الصهيوني يوما بعد يوم.
في هذه الأثناء بدأت تظهر كاريزما الرجل المتشبث بالأرض، وبمصيره المحتوم ، فخاض حراكا سياسيا مع رفاقه ، إلى أن وصل به المسير إلى الجبهة الشعبية  ليخرج شخص أخر، يحمل في أجندته الثورية آليات وبرامج مختلفة ، مانحا كل وقته لقضيته ولشعبه، عاش الرجل متنقلا بأثقال وطنه، بين الدول والأقطار، تميز عن غيره من خلال الكوفية التي ظل وفيا لها وبدلته العسكرية التي أرادها أن تبقى لصيقة به. وحتى مسدسه الذي حرص على ملازمته في كل تنقلاته داخل الوطن وخارجه، لا يفارقه وهو إيذان باستعداد الرجل للحرب في كل الظروف ومهما كانت مواقيتها .
عرف بخطاباته الشهيرة المناصرة لفلسطين والمدافعة عن حقها، لا يترك موضعا ، إلا وترك فيه الأنفس مشدودة إليه.. ففي كثير من الأوقات،  كان الرجل ينام بجواربه، لا يركن إلى النوم إلا في ساعات متأخرة من الليل.. لا الجسد يعرف الراحة،  ولا الجفون تأخذها سنة النوم .. فاستمر الوضع كما هو إلى أن بلغ من الكبر عتيا ، وعلى مشارف العقد السادس ونيف، خرج أبو عمار من عزلته فأراد لنفسه مأوى يأوي اليه  فطلق العزوبة واختار كاتبته رفيقة لما تبقى من العمر، فكان خبر زفافه بمثابة حلم وأمنية وفرح الكثير من القادة والرفاق الذين كانوا في حيرة من عزوف الرجل.
حمل شقاوة الحياة لوحده ففي كثير من المرات كان يردد بأن القضية الفلسطينية هي رفيقة دربه وشهداء الأقصى فلذات كبده. وليس في حاجة إلى أسرة صغيرة، بقدر ما يحمل هموم أسرته الكبيرة فلسطين
تعرض أبو عمار إلى  العديد من محاولات الاغتيال داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها، ففي كل مرة يخرج منها سالما معافى ، لكن تواجده وتحركاته كانت تثير غيض الاحتلال الإسرائيلي، فيزداد تنكرا وحقدا على الرجل ، خاصة بعد الإعلان الرسمي لميلاد دولة فلسطين بالجزائر الموعد التاريخي الذي غير وجه الخريطة الجغرافية، وجعل من القضية دولة قائمة بمؤسساتها السيادية والتنفيذية وعاصمتها القدس الشريف.
تحدث أبو عمار عن تقسيم الأرض الفلسطينية وصف ذلك بما لا يجوز أن يقسم، فقال: فلأننا مثل أم الطفل الحقيقية التي رفضت أن يقسم سليمان طفلها، حين نازعتها عليه امرأة أخرى، فقد منح قرار التقسيم للمستوطنين  الاستعماريين 54 بالمائة من أرض فلسطين  وكأن ذلك لم يكن كافيا بالنسبة إليهم  فشنوا حربا إرهابية ضد السكان المدنيين العرب واحتلوا 81بالمائة من مجموع مساحة فلسطين وشردوا مليون عربي .
أدرك ياسر عرفات أن جذر المشكلة الفلسطينية ليس خلافا دينيا أو قوميا وليس نزاعا على مستوى الحدود لدولتين متجاورتين، بل هو قضية شعب اغتصبت أرضه وشرد منها ،  ليعيش في المنافي والخيام .
فربط صاحب الكوفية علاقات كثيرة مع رؤساء وقادة دول عربية وغربية ، فجلب الوقار والاحترام والتأييد المطلق لقضيته ، وكان للجزائر الدور الكبير في احتضان كل القادة الفلسطينيين وارتبط شعار “مع فلسطين ظالمة أو مظلومة” ارتباطا وثيقا مع كل الجزائريين وأصبحت هذه المقولة حكرا أبديا على الجزائر دون غيرها في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، وظلت كما هي رغم مرور أكثر من أربعة عقود من الزمن. كان للرئيس عبد العزيز بوتفليقة الشرف أن قدم الرئيس ياسر عرفات في دورة الأمم المتحدة  لما كان وزيرا للخارجية  هذه الأخيرة تدخلت الجزائر فيها وطالبت باستضافة فلسطين والثائر ابو عمار صاحب الحطاب والكلمة الموجعة .
واصل نضاله المستمر والدائم إلى غاية حادثة اغتياله من طرف الموساد الإسرائيلي عن طريق السم وهي القضية التي أثيرت مؤخرا، وهي قيد المعاينة للكشف عن ملابساتها ، فليس من المعقول أن يموت الرجل بتلك الطريقة وهو الإنسان الذي كان لا يتأثر بترسانة الاحتلال،  ولا بألاعيبه الماكرة، فهو المدرك للأمور ذاتها من غيره، كيف وهو صاحب مقولة “يا جبل ما يهزك ريح”.
رحل أبو عمار عن الدنيا وبقيت فلسطين تقاوم وتدفع بشهدائها إلى جنان السماء إلى أن يصير الحلم حقيقة  وتتحقق الأمنية .

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19522

العدد 19522

السبت 20 جويلية 2024
العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024