لا يختلف اثنان حول الإنجازات والتطورات التي شهدها قطاع السمعي البصري في الجزائر بعد 53 سنة من بسط السيادة الوطنية على مبنى الإذاعة والتلفزيون، فكانت المقاربة التاريخية التي أثبتها جيل نوفمبر، ومن وراءها، تلك الأيادي الشابة والطاقات التي استطاعت أن تخزن في ملكتها الإبداعية كل التقنيات والبرامج التي من شأنها دفع عجلة التنمية في القطاع ومواكبة الصورة والأثير في كوكتيل من التفاني والتحدي، ثم تخطي كل الصعاب والعقبات.
المهنية التي رفعها، أبناء ذاك الجيل هو انتصار من نوع أخر، هو طفرة ضد الوصمة الاستعمارية التي تحتكر التسيير والبرمجة وتمتلك قواعد اللعبة دون غيرها من الجزائريين العاملين بالمبنى، وهي الرؤية الأكثر انتشارا وتملكا، على أنه بدون سواعد فرنسية، لن تقوم لقطاع السمعي البصري الجزائري المستقل أي قائمة، حتى أن الرهانات الاستعمارية على هذا المنوال وصلت ذروتها، فلا يمكن أن يستمر البث بعد خروج أخر فرنسي من مبنى الإذاعة والتلفزيون، إلا أن تلك الأمنيات والطلاسم سرعان ما تبخرت، ولم تجد لها أي قائمة في الواقع المخضب بدماء الشهداء والأبطال.
صحيح الجرأة والقدرة على التواصل عبر الأثير وإرسال الصورة شكلتا مرحلة مفصلية في تاريخ قطاعنا السمعي البصري، لم تكن بالسهلة طبعا، لكنها لم تكن مستحيلة، أمام إرادة صلبة من الفولاذ، كيف لا وقد سمحت تلك الجرأة لعبد العزيز سكراني أن يصعد إلى أعلى المبنى بشارع الشهداء ويرفع الراية الوطنية، بكل ثقة وتحدي وكبرياء، فكانت تجليات نوفمبر تحوم من على أسقف البناية.
لاشك أن الكثير منا يتذكر «هنا صوت الجزائر» للراحل عيسى مسعودي، ذلك الصوت الجهوري الأثيري، يشق حدود الممكن، من نيل القاهرة، إلى فرات بغداد.. ومن آهقارنا المقاوم، إلى جرجرة الصامدة في وجه الطغيان.. ومن أوراسنا الباسل إلى محطات تلمسان المتنقلة.. صوت زلزل الإدارة الاستعمارية فحاولت بشتى الطرق أن توقفه، استعملت كل الحيل وخاضت كل السبل، للوصول إليه.. لكنها باءت تلك المحاولات بالفشل، وانتصر صوت الجزائر على قوة استعمارية كان في اعتقادها أنها لا ترد.
53 سنة مسيرة طويلة من الكفاح والعطاء والخدمة العمومية، خمسة عقود ونيف من المهنية والاحترافية والتواصل..ليكبر الحلم، من صوت متخفي، في الشعاب والأمم، إلى أصوات متعددة وبعديد اللغات واللهجات، ومن زخم تراثنا وتاريخنا الأمازيغي المتنوع.. كلها محطات يجب التوقف عندها، لنعيد طرح سؤالنا الجوهري هل فعلا حملنا الوديعة وهل نحن راضون عما نقدم؟