إن حرية الإعلام لا تعني أبداً التنصل من تحمل المسؤولية، وهذا معمول به حتى في أعتى الديمقراطيات التقليدية. فالولايات المتحدة الأمريكية، مهد الليبرالية والحرية المطلقة، تراجعت عن الكثير من الحريات، بعد أن أصبحت مطية للتهجم على الأفراد والشخصيات وأسست منذ الخمسينيات نظرية جديدة - المسؤولية الاجتماعية - لتأطير الجانب الإعلامي وحمايته من التجاوزات.
وقد نصّت تلك النظرية على تحميل وسائل الإعلام مسؤولية نشاطها، مثلما تتحمل الدولة مسؤوليتها تجاه المجتمع. وقالت، إن وسائل الإعلام بدورها مسؤولة أمام المجتمع، بالنظر لمكانتها وأهداف إنشائها وتأثيرها وانتشارها. فالإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية لطالما طالب بالحرية ولم يكن أبداً يتحدث عن المسؤولية، بل كان يتهرب منها محاولا الظهور بمظهر «مواطن فوق العادة».
إن الحديث عن الحرية والمسؤولية يجرّنا للحديث عن ما جرى لقناة «الوطن» التي لا نرغب في التعليق عليها، فكل طرف له ما يبرر عمله. لكن الحديث سيكون عن بعض التوجهات في الإعلام الجزائري، ففي إطار المنافسة الإعلامية ومحاولة كل وسيلة إعلامية فرض منطقها وجلب أكبر قدر ممكن من الإشهار وبكل الطرق، هذا الأمر يدفع بعضها لمحاولة الانفراد بحوارات وبث أشرطة وحصص تحدث ضجة، بغض النظر عن مضمونها وبعيدا عن أية استراتيجية أو مراعاة الوضع العام للبلاد وانعكاسات تلك الخطوات على المصلحة العامة والحفاظ على السلم والاستقرار الاجتماعيين.
إن فتح المجال لأشخاص كانوا سببا في المأساة الوطنية ومحاولة النفخ في رماد الفتنة والترويج لأفكارهم التي لا تخلو من العنف اللفظي والتهديد والوعيد، أمر يحتاج إلى تمحيص وتأمل كبيرين من قبل الأسرة الإعلامية، المطالبة بالتفريق بين الحق في التعبير ومن جهة أخرى عدم المساس بالخطوط الحمراء لبعض الملفات التي تحملت الدولة مسؤوليتها، فمكافحة الإرهاب كلفت الدولة ومؤسساتها الكثير وقامت بدحر الإرهاب، ولا يحق لأي كان ومهما كانت صفته تبرير القيام بفتح المجال لمن تسببوا في الفتنة للظهور مؤخرا ونشر أفكارهم، خاصة في الظرف الحالي الذي يتميز بالحساسية والذي يتطلب توجيه القدرات والاهتمامات لتجاوز مرحلة الأزمة المالية وانهيار أسعار النفط والجزائر ليست بحاجة إلى العودة للوراء والتطرق لأمور لن تزيدنا سوى تضييع الوقت والدخول في متاهات لا تحمد عقباها.
لقد كان ميثاق السلم والمصالحة الوطنية واضحا وصارما في التعامل مع المتسببين في الفتنة، فلماذا تأتي وسائل إعلام، بعد أكثر من 10 سنوات على اختيار الشعب، لتحاول إرجاعنا إلى العشرية السوداء.
إن واقع وسائل الإعلام في الجزائر يدعو إلى الكثير من التساؤلات، خاصة على مستوى الصحافة الخاصة التي تعرف تناقضات صارخة، فقد أصبحت تعمل عمل المعارضة والأحزاب ومختلف النقابات وتبحث فقط عن تسويد الواقع والمشاكل حتى تظهر للمجتمع بأنها تراقب الوضع وتسهر على حماية أموال وممتلكات الشعب، مع التهجم على كل من يحاول الحديث عن أمور إيجابية حتى جعلت الرأي العام رهينة.
لقد حذرت السلطات في تسعينيات القرن الماضي، الكثير من وسائل الإعلام من الوقوع في فخ الدعاية للأعمال الإرهابية، وهو ما تجاهلته الكثير من الصحف آنذاك. كما حدثت الكثير من الوقائع التي أعلنت فيها الصحافة انحيازها لطرف ما، مثل الانتخابات الرئاسية التي جرت في أفريل 2004، كانت معاكسة للتوقعات وهو ما أدى إلى فقدان الكثير من الثقة في العديد من وسائل الإعلام.
كما أن العديد من الصحف تترصد أخبارا معينة تحاول بكل الطرق إضفاء المصداقية عليها، لكنها تظهر كاذبة دون أن تنشر اعتذارات أو ردودا في مستوى المقالات الكاذبة.
إن حرية التعبير والصحافة في الجزائر وبقدر ما قطعت أشواطا، تبقى مسألة الممارسة تستدعي الكثير من المراجعة والتنظيم، خاصة علاقة الصحافيين بالمؤسسات الإعلامية، فالمساهمون يطالبون الصحافيين بالمستحيل مقابل أجور زهيدة وأوضاع اجتماعية مزرية، والصحافيون، للأسف، غير قادرين عن الدفاع على أنفسهم، بينما يستميتون في الدفاع عن توجهات مساهمين لا يهم الكثير منهم سوى جمع عائدات الإشهار.