مازالت تلك الصورة عالقة بذهني إلى اليوم وستار الخشبة يوشك على ضم ثناياه، من خلف الخشبة كل الأنوار أفلتت شعلتها وتوقف نبض الأضواء برهة من الزمن، خيم الصمت والخوف والانتظار، اشرأبت الأنفاس إلى حلقها، من بعيد صوت يبكي يشبه نواح الثكلى ينادي على نواره نواره بنتي.
يرتفع الصوت البكائي في هستيريا عجيبة، كل الرؤوس متجهة صوب الخشبة، لم تعد فصول المسرحية مهمة بالنسبة لنا، بقدر ما كان يهمنا نواره التي بكاها بحرقة موجعة المسرحي القدير الفقيد مجوبي، نواره بنتي وكأنه فعلا أنجب نواره من صلبه وهو الذي لم يلد إلا طفلين رائعين، دون أنثى تنعم عليه وحشة البيت، ظل الصوت يتعالى من هناك، غادر الديكور مكانه، والضوء الخافت من أعلى الخشبة ينسل من بقايا الضياء، كما تنسل شمس الخريف من ضباب الشتاء، في هذه الأثناء انتابتني قشعريرة حادة، عشت الصرخة بكل ما تحمله من شجون، لم استصغ أنها مسرحية سينتهي ألمها مع إسدال الستار، لكن الألم ظل قابعا في ذاتي إلى أن انخفض الصوت تدريجيا، حين سمعت تصفيقات الجمهور الذي غصت به قاعة المسرح، مدركا أن العرض قد انتهى، متسائلا كيف يكون حال المسرحي بعد انتهاء العرض وهو يتقمص دورا بهذا الشكل، ألا يتأثر ؟ ألا ينتابه نوع من الحزن وهو يتقاسم حزنا خرافيا مسرحيا مع جماهير من البشر ؟ كنت أطرح الأسئلة في نفسي علني أجد لها جوابا....لكن هيهات..هيهات بعد ما أدركت بأن الوجع يظل قابعا في مخيلتهم لمدة أشهر طويلة لا يزول إلا بعد جهد جهيد وصبر أيوب.
هنا أدركت الفرق بين فنان يصدق الأخر بالضمة على “الدال” وفنان يتصدق على نفسه ؟؟
لست أدري لماذا ذرف الجميع من كان بالمسرح تلك الدموع العفوية وكأن مخرج المسرحية أراد لها أن تكون الخاتمة بصوت الفقيد مجوبي، فكان فعلا إخراجا دراميا متميزا فغير القاعة على زاوية 180درجة، المشهد مازال أمامي عالقا إلى اليوم وقد مر عليه أكثر من عقدين ونيف أو يزيد.
لم نكن ندرك أن نواره هي الجزائر التي كان يبكيها الفقيد مجوبي وأن نواره هي من ستظل وتبقى نواره وأن مجوبي سيختفي ليأتي بعده أجيال تحمل مشعل الخشبة من جديد ويصرخون نواره ابنتك حية واقفة بهؤلاء الرجال.
تحية كبرى إلى كل الذين أشعلوا فوانيسهم ليحيا المسرح الجزائري شامخا، منيرا برجالاته ونساءه.
“نوارة ... نوارة بنتي “
نورالدين لعراجي
28
مارس
2015
شوهد:1156 مرة