مليلية تطلق “طوارئ الهجـرة“ بعد اكتظـاظ مراكز الإيـواء

“مملكة الحشيــش“ تستعمـل الأطفال فـي لعبـة قـذرة

علي مجالدي

من الثغور الإسبانية شمال المغرب، تتكشّف سياسة بلا ستار من خلال تحويل أجساد القاصرين المغاربة إلى رسائل سياسية عابرة للحدود..
مليلية تطلب إعلان «حالة طوارئ الهجرة»، بعدما فاضت مراكز الإيواء. وسبتة على النهج نفسه، فيما تغرق جزر الكناري باكتظاظ غير مسبوق.
في سياق متصل، لا يتعلق الأمر بتدفّقٍ عفوي، بل بمنهج مُعاد تدويره، حيث يوظّف المخزن الهشاشة البشرية كرافعة ابتزاز مع ضفّة الشمال، حيث تتصدر إسبانيا الواجهة.

تتراكم تناقضات المخزن الاقتصادية.. عجز تجاري بلغ 26.8 مليار دولار في 2024 واستمر مرتفعًا إلى 19.5 مليار دولار حتى جويلية 2025، ودَيْن خارجي يناهز 69.3 مليار دولار بنهاية 2023 وفق بيانات دولية.. هذه ليست شذرات متفرقة، بل منظومة واحدة، عنوانها الفشل التنموي وتسليع البشر في لعبة الضغط.
منذ ماي 2021 في سبتة، حين دُفعت آلاف الأجساد الصغيرة قبل الكبيرة إلى البحر والأسلاك، انكشف المبدأ الحاكم: «التحكم» في الصنبور البشري وفق حرارة الخلافات السياسية.. صحف إسبانية وصفت ما جرى آنذاك بـ»الابتزاز» و»فتح الصنبور عمدًا»، وربطت الموجة الانفجارية بملفات حساسة بين الرباط ومدريد.
في سياق متصل، أكدت تحقيقات متعددة أن حضور القاصرين لم يكن تفصيلًا، بل محورًا مدروسًا لصناعة صداع قانوني وإنساني لدى الجارة الشمالية. اليوم، تُعاد الحلقة بالآليات ذاتها؛ قدرة استيعاب منهارة في سبتة ومليلية، طلب رسمي بتفعيل الطوارئ لتوزيع القاصرين على الداخل الإسباني، وخطط استعجالية في مدريد لامتصاص العبء.. هكذا تتحول «الطوارئ» من استثناء إلى وضع مُستدام، فتتسع مساحة المقايضة السياسية وتثقل الكلفة الإنسانية.
التسمية الدقيقة لما يجري هي «تجارة بالبشر في ثوب سياسة حدود»، فالرباط تربط شدّ البراغي الأمنية أو إرخاءها بتجاوب أوروبي في التجارة والأمن والإقليم، والفجوة بين الدعاية الرسمية والحصيلة على الأرض تفضح الخطاب، حيث يُباع شعار «الشراكات الرابح- رابح»، بينما الأرقام باردة وحازمة.. بطالة شبابية عنيدة، هشاشة وظيفية، ضغط معيشي في المدن الكبرى واتساع اقتصاد ظل يلتهم الفرص.
العجز التجاري المقوَّم بالدولار يعبّر بوضوح عن اختلال بنيوي بين واردات تتسارع وصادرات لا تلحق بها.. حساب جارٍ هش رغم مداخيل السياحة وتحويلات المغتربين، والقاعدة النقدية العالمية المشددة رفعت كلفة الاقتراض، فصار الدين الخارجي -بمئات ملايين الدولارات فوائد سنوية- عبئًا يزاحم الإنفاق الاجتماعي والاستثماري المنتج.
وحين تضيق هوامش السياسة الاقتصادية، يصبح تهشيم الحدود أداة سريعة المردود سياسيًا. فالنتيجة ملموسة: قوارب مكتظة، غرف إيواء تتحول إلى معسكرات انتظار بلا أفق، وملفات قُصَّر تُدار بلغة الجداول لا بلغة الحماية.
في سياق متصل، يدفع هذا المسار قطاعات واسعة في الإعلام الإسباني إلى مساءلة الرباط سياسيًا وأخلاقيًا: أي معنى لخطاب «الشراكة المتقدمة» مع أوروبا إذا كان القاصر المغربي يُستعمل كعتلة ضغط؟ ما جدوى تفاهمات «إدارة مشتركة للتدفقات» إذا كان مفتاح الصنبور أداة مساومة لا التزامًا قانونيًا؟
اقتصاديًا، الصورة لا تحتمل التجميل؛ 26.8 مليار دولار عجزًا تجاريًا في 2024، و19.5 مليار دولار عجزًا حتى جويلية 2025، مع دَيْن خارجي عند 69.3 مليار دولار بنهاية 2023. هذه المستويات، حسب الخبراء، تعني تبعية تمويلية أعلى، وحيزًا ماليًا أضيق، وميلًا لاستخدام أدوات غير اقتصادية لتعويض العجز السياسي. وفي سياق متصل، تتكدّس مؤشرات الإنذار الاجتماعي من تفاوت مجالي حاد، خدمات عمومية مرهَقة، وموجات غلاء متكررة. هذا ليس سياق اقتصاد يُنتج أملاً، بل مناخ يدفع بالمزيد من الشبان إلى الحلم الأوروبي بوصفه بديلاً معيشيًا، فتغدو المنافذ الحدودية أداة تدبير بمفعول فوري على الطاولة السياسية، بينما يُترك الأثر الإنساني خارج الحساب.
سياسيًا، يصرّ المخزن على سردية «التعاون المثمر»، ويُبقي أوراق الضغط مشرعة من البوابات المعدنية إلى الملفات الإقليمية. وعند النقد، يلوّح بخطاب سيادي لا يُبدّد الشكوك. والإشكال ليس في حق الدول بحماية حدودها أو التفاوض على مصالحها، بل في تحويل القاصرين تحديدًا إلى متغيّر قابل للتصعيد والتهدئة، وهذا الاستخدام يترك ندوبًا عميقة لدى مجتمعات محلية إسبانية مرهَقة، مناخات سياسية مشحونة وملف حقوقي يزداد قتامة كلما علت صرخات الأطفال في ممرات الإيواء.
والخلاصة مباشرة: ما يجري ليس «أزمة إسبانية» ولا «ظرفًا حدوديًا» عابرًا، بل سياسة ممنهَجة لتسليع الهشاشة البشرية وسدّ فراغ الفشل التنموي بتكتيكات ضغط قصيرة النفس. والمطلوب مساران متوازيان: الأول، آلية أوروبية- إسبانية مُلزِمة تحمي الأطفال وتجرّم توظيفهم سياسيًا، مع إعادة توزيع شفافة ممولة بما يكفي ومشروطة بمعايير حقوقية لا تُساوَم.
والثاني، مراجعة جذرية للنموذج المخزني تُعيد توجيه البوصلة نحو نمو مولِّد لفرص العمل، وخفض العجز التجاري بالدولار، وتقليص الاعتماد على الدين الخارجي. دون ذلك، سيبقى البحر مسرحًا لمأساة تتكرر، وسيظل إعلان الطوارئ يتنقّل بين سبتة ومليلية اليوم، ليطلّ غدًا باسمٍ آخر.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19865

العدد 19865

الثلاثاء 02 سبتمبر 2025
العدد 19864

العدد 19864

الإثنين 01 سبتمبر 2025
العدد 19863

العدد 19863

الأحد 31 أوث 2025
العدد 19862

العدد 19862

السبت 30 أوث 2025