كثيرون لا يستطيعون استيعاب وظيفة التاريخ، ويتعاملون معه على أساس أنّه مجموعة من الأخبار يمكن استغلالها في تعبئة روح العمل، أو الإيمان بالمبادئ العامة في الواقع المعيش؛ ولهذا لا يمكن لهم أن ينتبهوا إلى الثقل الذي تمثله المادة التاريخية، وقد يقبلون على اتخاذ خطوات إجرائية لا تناسب الواقع التاريخي، كمثل التعامل مع «الرّواية» باعتبارها مادة صناعية، بينما لا يتيح لها واقعها سوى أن تكون مكتوبة، مطبوعة، ويتم توزيعها على مستوى ضيّق جدّا، لا يعبر بالضّرورة عن بلوغها مرحلة «الصّناعة»، أو تحوّلها إلى رافد تنموي مهمّ، ومورد اقتصادي حيويّ، مثلما هي الحال في البلدان التي تجاوزت إكراهات الحضارة الشّفاهية.
ولا لوم على الذين لا يستوعبون حركة التاريخ أو وظائفه وأساليب اشتغاله، فهذه تصبح غاية في الصّعوبة حين تختلط بالزمن، فتتعالى عن المتصوّر العاميّ، وتصبح عديمة فائدة في الحاضنة التي لا تستوعبها، وهكذا تتعطّل عجلة التقدّم، ويصبح عسيرا تفكيك الإشكاليات التي تصطنعها الأفكار المغالطة، لأنّ هذه نفسها مجرّد خلاب، لا يمكن أن تحكم القدرة على الإبداع، ويكون أقصى ما يمكنها القيام به، اختلاق إشكاليات وهمية، فيتحوّل الواقع برمّته إلى متاهة كبيرة، تتضارب فيه الرّؤى المتوافقة، وتصطنع من التناقضات والمفارقات ما يصدّق الكلمة المأثورة: من تكلم في غير فنّه جاء بالعجب.
عودا إلى التّاريخ وثقل مادته، فهذه - في زمننا - تمتلك كلمة الفصل في أيّ تقدّم مفترض بالنسبة لحاضنتنا اللغوية كلّها، وبقاؤها تحت طائلة الغموض، إنما يفاقم الصّعوبة في إحكام أدوات صناعة المستقبل، لهذا، نرى أنّ الوعي بأهمية التاريخ، والعلوم الإنسانية التي تخدمه عموما، هو حجر الأساس لأيّة انطلاقة يكلّلها التوفيق، فالتّاريخ ليس ما فات، إنما التّاريخ ما هو آت..