عادة العقل المسحور أنّه يبحث عن أيّ شيء يسوّغ له أفكاره التي يتقوّت بها، وهو لا يهتمّ مطلقا بمبدأ «عدم التّناقض»، بلْهَ عن الانشغال بـ «الهويّة و»الثّالث المرفوع» وأمثال هذه (الخزعبلات!!) التي يمكن له أن يعيش الرّفاه والرّخاء والهناء دون أن يلجأ إليها، ودون أن يجعلها ضمن دائرة اهتمامه، فهو يعرف كلّ شيء، ويتقن كلّ شيء، ويمتلك أدوات استشرافيّة عالية، وقدرات عجيبة، تكفيه كي يصادر أيّ موضوع، ويُفتي فيه بمنتهى (الأناقة)، ثم يعود إلى (قواعده) سالما، مرتاحا لا ينغّص عليه وجوده شيء، في انتظار جولة جديدة.
ولقد انتشر العقل المسحور بشكل مذهل، حتى قيل إنّ فينا ملايين الأطبّاء، ومثلهم مدرّبين للفريق الوطني، وأضعاف هؤلاء ممّن يفهمون في «الأحوال الجوّية» و»توجّه العالم» و»طبيعة العلاقات الدّولية»، ويعرفون المقاصد، ويقرأون النّوايا، ويقدّرون الأوزان والمسافات والسّعات، ويفهمون (ما خفي وما هو أعظم)، ولا يتوقّفون، بل يصادرون حتى مآل الإنسان في آخرته، ويوجّهونه - وفق ما توحي لهم عقولهم المسحورة - إلى النّعيم أو إلى الجحيم.
لقد عاش زكي نجيب محمود في وضع أحسن حالا ممّا نعيش اليوم، ومع ذلك أطلق «صرخته» الجهوريّة: (مجتمع جديد أو الكارثة)، فأيّ الصّرخات تسعف بعد أن استقرّ «العقل المسحور» و(مدّ رجليه)، وتحوّل إلى واقع معيش يزحف على الأخضر واليابس؟! وكيف يمكن التّعامل مع من يمتلك الحقيقة المطلقة؟! وهل هناك أمل في استعادة حقّ الصّغير في الرحمة، وحقّ الكبير في الاحترام، وحقّ العالم في التّوقير؟!. يبدو أن هذا السّؤال يقتضي إجابة تقتطع من عمق الخيال.
إنّ الوضع المتردّي الذي فرضه العقل المسحور، سيتفاقم أكثر، ما دامت وسائل التّواصل الاجتماعي تغذّيه بكلّ غريب عجيب، وهذا يستدعي العمل - بشكل استعجالي - على استعادة مقوّمات المجتمع، فالواقع اليومي لا يترك فرصة ليقول صراحة: «أخلقة الحياة العامة..أو الكارثة»..