تمثل الإحصائيات من أرقام ومؤشرات حلقة محورية في رسم الخطط والتوقعات وبعث المشاريع المستدامة، غير أن المسألة ليست بالصيغة التي يمكن اعتمادها لانجاز أهداف المرحلة الجديدة، ويوجد إجماع على وجود خلل كبير في هذا المجال، مما يعيق تجسيد الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، إذا لم يتم تصحيح المعادلة، فالمعلومة الدقيقة تؤسس حتما للقرار الصائب.
التطلعات مهما كانت مشروعة وارتفع سقفها لا يمكن بلوغها، إلا إذا كانت معالم المشهد واضحة من حيث دقة المعلومات، لذلك هناك عمل كبير ينتظر الدائرة الوزارية ذات الصلة للقيام بمراجعة منظومة الإحصاء وإعادة تصويب منهاج عملها وفقا لمقاربة اقتصادية موثوق فيها تسمح لصاحب القرار برسم الخطط وبسط البرامج القابلة للتجسيد في آجالها وتصل إلى مستحقيها.
لغط كبير يحوم منذ عشريات حول عمل أدوات الإحصاء وغالبا ما يعاب عليها قلة الدقة، مما يضع المقررين على كافة المستويات في موقع صعب أمام التزامات وطنية ومحلية لا يمكن انجازها بدون توفير معطيات دقيقة بالتفاصيل اللازمة وآنية من حيث المضمون، لكل القطاعات.
سابقا كان المجلس الاقتصادي والاجتماعي، المعطّل منذ سنوات ماضية، بمثابة المرآة العاكسة لمشهد الإحصاء الكلي والجزئي، وأظهرت تقاريره مدى الفوارق العميقة بين المؤشرات التي تقدمها مختلف الإدارات وأحيانا حول نفس الموضوع، إلى درجة يصعب فيها حصر معطيات ملف واحد كالسكن، الإنتاج، الإمكانيات، البطالة وتوفير العمل.
من الاختلالات التي تعاني منها منظومة الإحصاء غياب قناة موّحدة تصّب في شباك واحد يسمح بتدقيق الرؤية ولذلك أصبح حتميا صياغة نمط إحصائي حديث متعدد القطاعات ومتحرّر من الجهاز التنفيذي ليكون أرضية موثوقة لا مجال فيها للمجاملة، والتلاعب بالأرقام حتى يمكن تصويب مسار السياسات العمومية وإرشاد صاحب القرار خاصة الاقتصادي لتفادي الخطأ المكلف، علما ان أخطاء الماضي كلفت الكثير.
طبيعي أن معلومة دقيقة تسمح باقتصاد الكثير من الجهد والمال، والتكنولوجيات تسمح اليوم ببناء أرضية إحصائية شفافة تفتح بالقدر الكافي مع تأمين الجانب المرتبط بالأمن الاقتصادي المالي بالطبع، كون المعلومة تكتسي قيمة كبرى في معارك الأسواق أحيانا أكثر من المال نفسه.
لعلّ طلب انجاز عملية إحصاء شامل للساكنة هو خطوة لبناء مسار إحصائي عصري يساعد على تصويب الدعم المالي يليه عمل في المجالات الاقتصادية لضبط الممتلكات العمومية والتدقيق في المنظومة المصرفية وتشخيص العقار الفلاحي وتطهير المشهد الاستثماري وغيرها من القطاعات، أولها الموارد البشرية من كفاءات وجامعيين وأصحاب مشاريع، لرسم أدّق للمشهد ومن ثمة القدرة على تطبيق البرامج بأكثر واقعية ونجاعة.
في غياب الصورة الإحصائية المطلوبة هناك اختلالات تضيع من خلالها موارد وإمكانيات، فيفعل الارتجال فعلته بكلفة باهظة، بينما يمكن في حالة توفير معطيات موّحدة اقتصاد نفقات وتفادي أعباء والأكثر أهمية تجسيد برامج تنموية بارزة وممكنة التقييم ماليا من حيث الكلفة والنجاعة في النمو.
إن إقامة مقاربة للإحصاء، ذات جدوى لا تخضع لمركز قرار سياسي أو إداري وتصمد أمام الظروف مهما كانت ضرورة آنية، تشكل خطوة سليمة باتجاه النموذج الصحيح للنمو المتكامل والمتوازن.