بالموازاة مع مسار الإصلاح السياسي من خلال مراجعة الدستور وباقي البنية القانونية ذات الصلة بتحقيق تطلعات الممارسة الديمقراطية بمفهومها الشامل، يقع على عاتق المنظومة الاقتصادية عبء تجسيد النمو بمعدل مقبول يتوافق مع الإمكانيات الموجودة بشرية منها ذات كفاءات في مختلف القطاعات ومادية مالية تسمح بإنجاز التحول من اقتصاد مرتبط عضويا بالمحروقات إلى اقتصاد متنوع إنتاجي يرتكز على إنتاج الثروة والقيمة المضافة في قطاعات عديدة يراهن عليها في تصحيح معادلة النمو.
الكرة حاليا في مرمى الفاعلين الاقتصاديين لتدارك التأخر والتخلص من تداعيات الصدمة السياسية والمالية التي ألقت بظلالها على المشهد الوطني في الفترة الماضية قبل أن يتم تجاوز الانسداد السياسي من خلال انتخابات 12 ديسمبر الماضي الرئاسية، والتفرغ اليوم للجبهة الاقتصادية لوضعها على المسار الصحيح ضمن معالم التوجهات الكبرى لمسار جزائر جديدة تقوم على حرية المبادرة الاستثمارية، تكافؤ الفرص، أولوية الكفاءة، مكافحة الفساد والبيروقراطية، إرساء آليات حوكمة على كافة مستويات إدارة الشأن العام والأكثر جدوى إعادة هندسة التنظيم الاقتصادي نحو صيغة أكثر مرونة خاصة بالنسبة للقطاع العام.
في هذا الإطار هناك ضرورة اليوم لمراجعة التنظيم الحالي للراسمال التجاري للدولة، بحيث يلاحظ أن الصيغة الهيكلية القائمة التي تحكم المنظومة الاقتصادية العمومية بلغت مداها وتبدو أكثر بيروقراطية مقارنة بالطاقات الموجودة التي يمكن أن تحقق الأهداف المسطرة والمنتظرة في آجال زمنية قياسية إذا تم إدراجها في نطاق التحولات السياسية الشاملة بحيث يتم إنهاء الوصاية المزدوجة على المؤسسات وكسر مراكز القرار الفوقي لصالح المبادرة في النطاق الجزئي حيث تعطى للمؤسسة أكثر مساحة للمناورة والمبادرة والتحرك وفقا لقانون السوق ومتطلباته.
هناك حاجة لمقاربة أكثر مواكبة لمعايير الاقتصاد الجديد تماشيا مع معايير الجزائر الجديدة شريطة مراجعة مختلف آليات الممارسة والتنظيم بحيث يتم تعزيز حرية العمل والتحرك في السوق من جانب وتقوية أدوات المراقبة والمرافقة عن بعد من الجهات ذات الاختصاص لإنجاز الجسر الآمن الذي تعبر منه المؤسسة العمومية إلى مرحلة المنافسة والاحتكاك مع الفاعلين في السوق.
إن ما تواجهه المؤسسة في الميدان غالبا ما يفوت رؤية الوصاية من مجمعات ومصالح مركزية ولعنصر الزمن الذي يقتضيه اتخاذ قرار بشأن مشروع أو صفقة قيمته الجوهرية وغالبا ما تكون كلفته باهظة.
حقيقة إعطاء حرية مطلقة للمسير العمومي غير مأمونة العواقب ولذلك كان اللجوء إلى مضاعفة آليات المراقبة لم تحقق هي الأخرى المرغوب من نمو وقيمة مضافة وقضايا الفساد التي لوثت الساحة خير دليل، لكن لا يمكن التوقف عند هذا الحد وانتظار حلول سحرية، إنما المطلوب استعجال فتح ملف تنظيم الجهاز الاقتصادي على أسس معايير واضحة ودقيقة تعيد الأمور إلى نصابها بحيث يمكن الفصل بين الفعل الاقتصادي وأفعال الفساد المقيتة.
من هذا يطرح سؤال بعلامة استفهام كبيرة، أي نمط اقتصادي نريد؟
صحيح الجميع متفق على خيار اقتصاد السوق الاجتماعي بمعنى حرية العمل لكن ضمن ضوابط قانونية تضمن لكل طرف حقوقه، المتعامل يكسب وفي نفس الوقت يدفع الضرائب ويصرح بالعمال لدى الضمان الاجتماعي ويلتزم بالجودة ونبذ الغش.
في هذا المجال يبرز دور القطاع الخاص الذي حان وقت تخلصه من ارتباك الفترة الماضية ليقوم من يوصفون بالمستثمرين «النزهاء» إلى أن يثبت العكس بالعمل في الميدان بثقافة جديدة تدمج المال بالمشاريع والكفاءة ضمن معادلة أخلقة الحياة العامة، بحيث تسقط ممارسات الغش وتضخيم الفواتير والفساد بكل أشكاله لتأسيس منصة قطاع خاص وطني قابل للديمومة.
في حالة بروز هذا الصنف من رؤساء المؤسسات من أصحاب قناعة خدمة البلاد وشعبها ولديهم ثقافة إدماج المصلحة الخاصة في المصلحة العامة يمكن الانتقال إلى إرساء شراكة عمومية خاصة تنجز الهدف المحوري للنمو أسوة بما يقوم به متعاملون في بلدان أخرى انخرطوا في ديناميكية التغيير بأداوت محلية ليتحولوا إلى قوى اقتصادية ومالية ذات نفوذ عالمي.