أحدثت الانتخابات الرئاسية قطيعة دقيقة مع الممارسات السابقة التي اعتدنا سماعها من قبل، والمتعلقة أساسا بثقافة العدمية، أي إطلاق العنان لذلك الرفض المطلق لما ينجز سياسيا خاصة. والتشكيك في كل ما ينبثق عن المواعيد الانتخابية إلى درجة أن ما يسمى بـ «التزوير» أصبح لصيقا وعنوانا في مسعى تجديد المجالس الشعبية الوطنية أو المحلية. وللأسف لم نتخلص من هذه التبعات السلبية إلا بعد ١٢ ديسمبر ٢٠١٩.
الذين لوّثوا المشهد السياسي طيلة عقود من الزمن، وبالأخص منذ الانفتاح الديمقراطي في نهاية الثمانينات إلى غاية 22 فيفري 2019. انسحبوا بشرف هذه المرة، واحتكموا إلى ضمائرهم الحية بأن المرحلة القادمة ليس لهم حيز فيها، بالرغم من سعيهم للتكيف معها بالطرق التي يرونها مناسبة، وتتماشى مع أساليبهم وحيلهم في العودة دون أن يشعر بهم أحد.
وستتبلور هذه الخارطة أكثر خلال الفترات الآتية بشكل ملموس، بعد أن لمس الجميع مؤشراتها، أثناء حوالي 10 أشهر، كانت صعبة ومعقدة على قادة الأحزاب في التكيف مع الوقائع الجديدة، لاعتبارات قاسية أملتها الظروف والمستجدات.
مثل هذا التوجه، هو تتويج لما أنجزته السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، من إقامة لآليات عملية، كانت عبارة عن صمام آمان، لأي انحراف يسجل في هذا الصدد..وضمانات ثابتة لتفادي حدوث أي طارئ. هذه المنظومة المعدة لهذا الغرض أتت أكلها في فترة زمنية قصيرة، وقل حتى قياسية، أفرزت قيما جديدة في حوليات العمل الانتخابي في الجزائر، هدفه الأسمى إبعاد التزوير.
وهكذا فإن السلطة وتركيبتها البشرية المختصة، استطاعت أن تبعث برسائل واضحة المعالم إلى كل الناشطين في الحقل السياسي، بأن قواعد اللعبة تغيرت تغيرا جذريا، وعلى هؤلاء الفاعلين نسيان العادة التي أصبحت طبيعة ثانية في التعامل مع الأحداث الكبرى في الجزائر. كل واحد مطلوب منه أن يعرف حجمه ولا يتجاوز هذا الإطار.
وهذا الفرز الأولي يعد بمثابة مرجعية خلال المحطات القادمة. وأن الصندوق الوحيد الذي يعطي لكل واحد ما منحه له الشعب. وغير هذا من اعتبارات خارجة عن هذا النطاق، لا يقبل بها أبدا، كونها تتنافى مع القناعات الجديدة لدى جميع الجزائريين.
بالرغم من كل هذا، فإن أولى بوادر هذا التحوّل الجذري في الذهنية السياسية عندنا هو امتناع المترشحين الذين خسروا تقديم أي طعن، وهذا في حد ذاته نقلة نوعية لم نتعود عليها، فيما سبق. وستترسخ لاحقا عند الآخرين، بمعنى وضع الثقة الكاملة في سلطة الانتخابات، ومن جهة أخرى فإن هناك صحوة لا مثيل لها، لدى كل من خاض هذا المعترك، وهذا بالذهاب إلى خيارات نابعة من حيثيات هذا الواقع السياسي الجديد. إما بمواصلة العمل، أو الانسحاب أو التحوّل إلى مناضل أو انتظار فصول أخرى من التغييرات الداخلية للأحزاب.
ومثل هذه الثقافة النضالية، نعتبرها حقا جديدة في العمل الحزبي عندنا، لم نقف عليها في السابق لأن فكرة الزعامة ما تزال ثابتة لدى الكثير، خاصة أولئك الذين يرفعون شعار الديمقراطية، لكنهم يرفضون تطبيقها على أنفسهم، أضروا بأحزابهم أكثر مما نفعوها، وهذا عندما تحوّلوا إلى معاول هدم الوطن باسم أراء متطرفة. للأسف لم يتعضوا من دروس التسعينات وحاليا يعملون وراء الستار، متقمصين لباس الحراك.