إزدواجية «واجب الذاكرة»

جمال أوكيلي

16 أكتوير 2018

الجبهة الثانية التي فتحها المناضلون الجزائريون في باريس كان لها الوقع المؤثر والعميق، على القادة السياسيين الفرنسيين الذين أصيبوا بالذهول لما رأوه من  تنظيم محكم في مظاهرات «الاستقلال» التي إندلعت في قلب العاصمة الفرنسية إحتجاجا على النظام الكولونيالي في الجزائر وتضامنا مع الثورة التحريرية.
هكذا قرر مسؤولو جبهة التحرير الوطني نقل المعركة إلى عقر دار العدو حتى يدرك جيدا بأن مطلب إسترجاع السيادة الوطنية لابديل عنه مهما كانت التضحيات، وحان الوقت أن يكتشف هؤلاء الغلاة بأنه لا تراجع عن ما ورد في بيان أول نوفمبر.
هذا النشاط الثوري للجزائريين في فرنسا، هو إمتداد طبيعي لكفاح إخوانهم بداخل الوطن، وقوة النضال هناك كان في سريته، هذا ما جعل البوليس الفرنسي يقف عاجزا عن معرفة أو تفكيك شبكات العمل الذاتي، في كل مرة تتعرض منشآته للتخريب.
ومازاد في حيرة مسؤولي أمن منطقة باريس هو أنهم لم يعثروا على أي «غرض» لدى المتظاهرين الذين تلقوا تعليمات صارمة على أن تكون المسيرات سلمية مهما كانت درجة إستفزاز الطرف الآخر، مما أربك كل تلك القوات المجندة لقمع المشاركين، ولم تجد أمامها سوى الشروع في إرتكاب ما أتفق عليه بتجريمة دولة وقد تفوق ذلك إلى إبادة ضد الإنسانية أو مجزرة عندما أطلقوا العنان لجنونهم برمي الجزائريين في نهر السين وإطلاق النار عليهم، وجمعهم في القاعات الرياضية، وغيرها من الممارسات غير الإنسانية.
كل هذا كان تحت الإشراف المباشر للسفاح موريس بابون وبتغطية أو حماية من وزير داخلية آنذاك ج.فيري، إلى غاية  قائدهم الأكبر ديغول، ممار يوحي بأن ما إقترفه هـؤلاء تتحمل مسؤوليته الدولة الفرنسية الممثلة في رموزها السالفي الذكر.
عقب كل هذه العشريات من هذه الأحداث الأليمة ترفض تلك الجهات الإعتراف بها، كل ما في الأمر أنها مبادرات شخصية قام بها البعض من الفرنسيين الأحرار كرئيس بلدية باريس السابق دولونوي عندما ثبت يافطة حول الذكرى أمام نهر السين.
كما أن هنا دعوات صادرة عن مؤرخين متوجهة إلى سلطات هذا البلد كي يدرجوا هذا الحدث ضمن إطار المسؤولية التاريخية تجاه ما أرتكب ضد الجزائريين إلا أن ذلك مجرد صيحة في واد، وما جاء على لسان هولاند فيما سبق لم يتحرك قيد أنملة ولا أحد من الذين استخلفوه واصل هذه «الحيوية» في إدانة ضمنية للجرائم المقترفة ضد الجزائريين يوم ١٧ أكتوبر ١٩٦١ من قبل الشرطة الفرنسية.
وكل من حاول تجاوز الخط الأحمر يتراجع عن كلامه وكأن شيئا لم يكن، هكذا يفهم هؤلاء ما يسمونه بـ «واجب الذاكرة» أي السير على حقل من الألغام في هذه المساحة ومعرفة موطئ كل قدم، وهذا ما وقع عندما تم وصف الإستعمار بالجريمة ضد الإنسانية وإعادة الإعتبار لـ أودان، وتكريم الحركى بصندوق ينطلق بـ ٤٠ مليون أورو.
ولأول وهلة يظهر وأن الأوساط الفرنسية «تهتم» فقط بكل ماجرى على أراضيها أو مواطنيها الذين ساندوا الثورة، أما الباقي فهو متروك للوقت كي يفصل فيه.
هذه «الإزدواجية» لا علاقة لها أبدا بـ «واجب الذاكرة» لأن هذه الأخيرة واحدة موحدة في محتواها، وفي إمتداداتها لا تقبل القسمة على إثنين، وللأسف هذا ما يلاحظ اليوم لا يوجد خطاب تاريخي فرنسي واحد، وإنما ثنائية لا غبار عليها، مما جعل هذه  »«الذاكرة» معطلة إلى إشعار آخر ريثما يدرك الجميع بأنه لا يعقل تسييس التاريخ أو طمسه بالمحاولات الحالية.
أصوات التعقل التي تسمع من حين لآخر تسعى لأن يكون العمل على الذاكرة متوازنا ولا تتردد في كل مرة على بعث رسائل قوية المضمون إلى «السياسيين» لقراءة التاريخ بشكل مخالف عما تسوق له المدرسة الكولونيالية إلا أنه لا حياة لمن تنادي.
وهذه النظرة الرافضة لمراجعة هذا «التصلب» لا ينتظر منها أي شيء، وقد يخطيء من يعتقد غير ذلك، كم طال إنتظارنا في إستلام جماجم مقاومينا! وكم طال إنتظارها على الأرشيف الذي لم يأتنا! بالرغم مرور أكثر من ٥٠ سنة فما فوق وإن أرسلوه قد نتفاجأ لمضمونه، لذلك فإن الذين يتحدثون عن الذاكرة عليهم إن يفهمونا ماذا تعني عندهم!؟

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19526

العدد 19526

الأربعاء 24 جويلية 2024
العدد 19525

العدد 19525

الثلاثاء 23 جويلية 2024
العدد 19524

العدد 19524

الإثنين 22 جويلية 2024
العدد 19523

العدد 19523

الأحد 21 جويلية 2024