ساعات قلائل ويبدأ «أنعم- سيدي « في الاستماع إلى طلبة المحضرة القرآنية وما حفظه ابناء الاحياء المجاورة من سور قرآنية او ما تسنى لهم من اجزاء ، او ما تيسر حفضه سرا وجلجلة....الكل غارق في اجترار الآيات ، مرددين في غدو ورواح وراء الشيخ سي مسعود مرزوق.
وكان هذا الأخير قد بلغ من الكبر عتيا؛غزا رأسه الشيب فغطت عمامته كومة من الهيولى الناصع ، لونها ، وما بقي من آثار هذا الغزو القطني ، قذفه الى أرذل العمر .. امتد الى حاجبيه..وقد بدت تلك الشعيرات خارج السرب ، تزحف وحدها تثير انتباه من يراها لأول مرة ، وعلى قميصه العربي الأبيض تتراءى بقايا الشمة الرطبة التي تستعمل عادة في الانف ، وهي تشكل سحبا بنية ، مختلف الوانها وأشكالها ، تتدلى قلادة فضية معلقة في أعلى القميص وتمسك بساعة عتيقة كبيرة الحجم بها رقاص متوسط يشبه زناد بندقية افرنجية .
يده لا تمتد الى جيبه إلا لماما ، فهو يعرف مواقيت الصلاة من خلال الظل الذي يبدأ زاحفا على الشق الاعلى للنافذة الخشبية من حجرته وغرفته الوحيدة التي يتخذها للكتابة وتدريس القرآن ، يقوم من خلالها باستقبال عجائز المدينة حين يأتين بأطفالهن مرضى يتوسلن في يده من حكمة ووقار،ان يحفظهم ويلبس لهم مناعة من اسماء الله الحسنى، لذلك كنت اسمع امي تقول عن ابراهيم بن الياقوت ان الشيخ -انعمسيدي - سبب له فكان على يده الشفاء، وادركت حينها ان الشيخ مسعود يمكنه علاج المرضى من اصابات الجن والانس، فزاد خوفنا منه كثيرا اثناء الدروس بالمحضرة ، خاصة حينما يقوم امام الجمع من الاطفال، بقراءة المعوذتين، ويده تمسكان الطفل من اعلى جبهته وأعلى صدره، وكلنا نتابع العملية عن كثب ، وماهي الا صيحة واحدة منه، حتى يتحول لك السكون الى دبيب نحل ،وحينما يرفع عنهم وساوس الاصابة من العين والحسد ، كنا نفرح لان الغد سيكون منعشا بما جادت به صدقات اهل المريض، من بيض طازج ، حبات من تمر « القرباعي «، او طبقات من كعكة الرفيس التونسي، وفي الغالب تكون قهوة الصباح بالفطير المنزلي والشاي المنعنع .
لم يكن المكان شاسعا رغم ضيقه، لكنه يمنحك طاقة عجيبة للبقاء تحت جدرانه الطوبية السميكة، توخزك نسمات البرد المتسللة من مساماته، فيما يبقى حاجبا» انعمسيدي «شاردين كقرني استشعار، سرعان ما تعود الى حالتها ألطبيعية عندما تلامسان ماء الوضوء.
يتبع ...