من لا يعرف سيدرا فليُغرق رأسه في الرمل

بقلم: عيـسى قراقـع

من لا يعرف سيدرا فليتوقف عن الكتابة، ويعلق أصابعه على فراغ الكلمات الناقصة، يتحرّك الطفل في الخيال الروائي محمولاً على تابوت أو تشظياً إلى أشلاء، مات الجمال والبراءة والبسمة والفراشة وهديل الحمام، ماتت الحياة والنبضة وعسل الوردة في موت الكلام.

اسمها سيدرا حسونة (7 سنوات) طفلة من ضحايا المجزرة التي ارتكبها الكيان الصهيوني يوم 12-2-2024 في رفح جنوب قطاع غزة، قتلت سيدرا وشقيقتها التوأم سوزان ووالداها وأجدادها وعمها، قذفها الصاروخ إلى أعلى الجدار في البيت المهدم، ظلت يد أمها عالقة في جسدها، يبدو أن الطفلة كانت نائمة في حضن أمها، نامي يا ابنتي نامي، هذا مجرد كابوس، نامي، غداً ستذهبين إلى المدرسة بفستانك الورديّ، أعددت لك الحقيبة، الدفاتر وأقلام التلوين، أعددت لك فطيرة، ونشيداً للبحر الذي يعشق اللعب مع الأطفال، فهذا البحر لي، كما قال محمود درويش في طفولته المبكرة.
شاهد الصّحفيّون أفظع المشاهد في هذه الحرب الدمويّة، جثة سيدرا تتدلى على جدار بيتها الذي دمّر، جثة محروقة مشوهّة تلتف حولها يد والدتها، ماتت العائلة، ماتت عصافير الجنة، هربت الملائكة من أرض غزة إلى آيات الرحمن.
خلال أكثر من عام من الإبادة المتواصلة في قطاع غزة، قتلت آلة الحرب الصهيونية 19 ألف طفل، إنها حرب على الأطفال، وباتت غزة مقبرة للأطفال، كما قال المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين، فكل ساعة يقتل أربعة أطفال، بينما يعيش أكثر من 35 ألف طفل بدون والديهم أو أحدهما، آلاف الأطفال تبخرت أجسادهم أو دفنوا تحت الركام، وآخرون قضوا بسبب الجوع ونقص الغذاء والدواء، لا حياة للأطفال في غزة، لهذا قتل أكثر من 220 طفل بعد أن ولدوا بأيام، لا زالت قنينة الحليب في أفواههم، جثث صغيرة في أكياس أو أقمشة بيضاء، جثث تبعثرت قبل أن تحمل اسماً أو كوشان ميلاد.
من لا يعرف سيدرا فليغرق رأسه في الرمل، سيدرا الجميلة التي لم تجد لها عشاً في الأرض ولا عشاً في السماء، عدد القتلى الأطفال يفوق العدد المسجّل خلال أربع سنوات من الحروب في أنحاء العالم، إبادة النسل والقضاء على الأجيال، وفي هذه الحرب البربرية على الأطفال أن ينطفئوا مبكراً، حتى لا يشاهدوا الجرائم التي تحول الكائن البشري إلى شاهدٍ أو صاعق في قنبلة.
سيدرا الجميلة لم تعد هنا، رحلت مع 1410 عائلة مسحت من السجل المدني، لم تشارك سيدرا مع الأطفال بيوم الطفل العالمي، ولم تذهب إلى ساحة الميلاد في بيت لحم لتستقبل اليسوع في عيد ميلاده، وهدايا بابا نويل وتضيء شجرة الميلاد، فقد توقفت الصلاة، فعندما يقتل الأطفال ينسحب الأنبياء وتغيب النجوم.
يقول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: في غزة أكبر عدد في العالم من الأطفال المبتوري الأطراف نسبة إلى عدد السكان، ويوجد أكثر حالات إعاقة في فئة الأطفال في العالم، الأطفال فقدوا أقدامهم، لا معدات ولا عكازات ولا كراسي متحركة.
في الليل يصحو أطفال غزة، يحلمون بالحرب، الحرب تعطّل أدمغتهم، أي صوت يعتبرونه تهديداً، أصوات الصواريخ والانفجارات والزنانات والدبابات، يعانون اضطرابات في النوم ويحلمون بكوابيس مزعجة، ولا زال أطفال غزة يسألون ذويهم: لماذا لا نذهب إلى المدرسة؟ لماذا لا يوجد طعام؟ حالة من الترقب والقلق والانتظار والأذى الجسدي والنفسي، ولهذا لم تستطع الشاعرة البريطانية لوسي كوتس أن تحتمل رؤية جثة سيدرا المتدلية على مرآى من العالم، انفجرت الشاعرة باكية، القت بمعطفها وحملت الجثة الشهيدة على جناح قصيدة.
أطفالنا يولدون ثم يفقدون شهيتهم في بحثهم عن أثداء أمهاتهم، أشكال الموت متعددة في غزة، يقتحم هذا الموت كل غرفة نوم في العالم، وكل مدرسة وروضة وحديقة، لا يستطيع أحد في هذا العالم أن يقول أنه لا يعرف ولم يشاهد الطفلة سيدرا، أو يدّعي أنه لم يكن طفلاً في يوم من الأيام، لقد قتلوا الطفل فينا والأمل والأرض والحلم والجسد والمستقبل.
من لا يعرف سيدرا فليغرق رأسه في الرمل، ولم يبق إلا دم أطفالنا المقدّس، ندافع عن بقائنا وهويتنا ونرتقي إلى أعلى المطلق البشري، نحن بحاجة إلى الدهشة والخروج من ثلاجة الأعصاب الباردة، فلنا وطن في القلب وحلم مؤجل، ولنا صلاة في القدس ولكن القدس تصلب، وفي ليلة عيد الميلاد مطر وأجراس ومغارة محاصرة، أطفال يعذبون في السجون وظلام الأقبية، اسألوا أحمد مناصرة الذي لا يعرف كيف كبر بين القضبان بلا طفولة وذاكرة.
أطفال غزة يموتون من الألم، تقول منظمة اليونسيف، تضيع أجيال كاملة في غزة، يذهبون للحصول على الطحين فيعودون جثثاً، يموتون رعباً وفزعاً، يموتون وهم يصرخون تحت هذا الدمار الهائل، دماء وأشلاء وجوع ونزوح وإبادة عائلات، ورؤوس مقطوعة، ولا زلنا نسمع جنرالات تل أبيب يقولون: اقتلوهم جميعاً، حتى الرضّع منهم، إنها عقيدة التطهير العرقي، فتاوي التوراة والمدرسة الدينيّة، إباحة سفك دماء الأطفال والنساء واستئصالهم، أقتلوا الأطفال حتى لا يصير الأبناء مثل آبائهم، ولا ينهضون فيقاومون ويرثون الأرض.
من لا يعرف سيدرا فليغرق رأسه في الرمل
قليل من الأطفال تشتعل مظاهرة
قليل من الأطفال نعيد تركيب الوطن
قليل من الأطفال يتحرك الضمير والسؤال
نستعيد طفولتنا المصادرة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19654

العدد 19654

الأحد 22 ديسمبر 2024
العدد 19653

العدد 19653

السبت 21 ديسمبر 2024
العدد 19652

العدد 19652

الخميس 19 ديسمبر 2024
العدد 19651

العدد 19651

الأربعاء 18 ديسمبر 2024