<شاهدنا العالم بأسره ونحن نستقبل جثمان الشهيد الأسير ياسر حمدونة من على حاجز الجلمة العسكري، عاد إلينا جثة هامدة من سجون الاحتلال بعد قضاء 14 عاما من مؤبّده المفتوح على الظلام، سقط قتيلا بعد أن صرعه المرض والإهمال الطبي الذي يرتقي في السجون إلى مستوى جريمة الحرب والجريمة ضدّ الإنسانية.
لم يسأل العالم الحرّ عن هذا الشعب الذي يستقبل أسراه في توابيت وداخل أكياس سوداء، وعن هذه الجثة التي حملت في دمها وقلبها حسرات وعذابات ومعانيات الآلاف من الأسرى والأسيرات، يموتون هناك، تتكسّر أحلامهم، وتذوب أجسادهم ولا يكتملون إلا صامتين محمولين على الاكتاف إلى قبورهم، ليشتعل التراب مرة أخرى بما حملوا من أمنيات وذكريات. ليس قدرنا هذا الموت وهذا الاحتلال، أرضنا دمنا، وهذا عصرنا، أبواب ونوافذ تتسارق النظر، تتعانق في الفضاء، وفي الجنازة كانت شوارع يعبد جنين تدر غزيرة، الحليب دم، الوقت دم، العلو سيد على أعضائنا وأجسادنا، لا نستطيع أن نكتب أسماءنا إلا بأبجدية الحرية، هتف نشيد الناس المفجوعين الحائرين المصدومين.
دخل الشهيد ياسر حمدونة بيته، لم يكن وداعا عاديا، احتضنته أمه طويلا، صرخت في الجميع: لا تقبروه...اتركوه في حضني، غاب عنّي، الموت كسر مؤبّده الآن ودخل البيت أخيرا، دعوه يجلس، دعوه يمشي، دعوه يعانق أطفاله الصغار، دعوه يشرب الشاي معي في الصباح، دعوه يصافح الأصدقاء، دعوه ينام على وسادته قربي، يرى الفجر ويأكل خبز الطابون بالزعتر من يدي.
هذه الأم تتشظى في أعضاء ولدها...تلده مرة أخرى، فالجنازة في جنين هي امراة تجمع المسافات كلّها، تغمرنا بالحب وبالورد وبالغضب، تتدلى معنا إلى قبرنا الجماعي، تلملم عظامنا، توقظ الأموات في مخاضها، تلد الأنبياء على فراشها، يداها تهزّ الجسد الميت والجسد الحيّ، تهزّ جذوع النخيل من حولنا، كبرنا وتنهّدنا على صدر حقول الرعاة والمبشّرين.
لا تقبروه..تركوه في حضني، يُمطر التاريخ في أحشائه، يُمطر في كلماته وبين قدميه، يمطر دما يرفعه راية للسماء، أرض الأم أوسع من مخطّطات وجرافات الاحتلال والمستوطنات، وأبعد ممّا تقول النبواءات، أرض الأم تعشق الأحرار، هذا ابني، ولد شمسا وعاد شمسا، خلع قفله وردّ غطائي عليّ.
القلب يدقّ بسرعة، هناك المئات من الأسرى المرضى الواقفين على بوابات الآخرة، المصابين بالسرطان والأورام والجرحى والمعاقين والمشلولين والمكتملين في توابيتهم، سكن الموت في أعماقهم، يخشون أن ينفجر فجأة قبل أن تسأل الضحية جلاّدها ويتأخّر الحنين إلى الغد ويتعثر الحلم في الخطى، ولا يأتي زورق النجاة.
لا تقبروه..اتركوه في حضني، لا أدفن ابني الذي أتى، هم كانوا يعرفون أنه مريض بالقلب، ظلّ ملفه الطبي عالقا هناك، تفاقم المرض في جسمه دون علاج، نخر شرايينه، وأطبق الموت على أنفاسه في ذلك الصباح، حاول القلب أن يضخّ ويدقّ على بوّابات العالم والأمم، أن يقول لهم انقذونا، امنعوا الموت أن يفتكّ بنا، لا مكان للسلام في السجون وقد غطّته رائحة المذبحة.
بأيّ لغة هذه الأم تواجهنا، تحمل التابوت على رأسها، جسدها ينتفض ويفيض ويفيض يغمرنا، يغمر الدنيا هزّات وهزّات، والآن رعد في جنين القسام، والآن صرخة في الوضوح وفي الغموض، لا حراك، تجمدنا، الجنازة طويلة، والجنازة لا تنته، نهض الشهيد وأطلّ علينا، عانق أمّه، قبّل يديها، رأى بحرا، ورأى قمرا، ورأى أرضا ترفع عن صخرها غيمة غارقة في الماء.
هنا في يعبد القسام، وجدت أنّ لكلّ نبتة ولكلّ حجر ولكلّ صوت نبع لشهيد أو أسير، خطوات تطبع ظلالها على الحاضر والمستقبل والتاريخ، للتراب بصر يحفر عميقا عميقا ويضيء على وجوده النساء، أمّهات يذهبن إلى زيارة أبنائهنّ في المقابر أو السجون، لكي يزيّن قبور الراحلين بالأكاليل، وليل الغائبين بنور الأمل والدعاء.
هؤلاء الذين يظنّون أنّ الأرض وعد لهم، وأنّها أصبحت ملكهم، لم يضعوا في طريقها إلا حواجز لاقتناص الأطفال، وعلى شفتيها وضعوا الأغلال والسلاسل، وفي هوائها نصبوا شباكا لاصطياد الفراشات، توغّلوا حديدا وبارودا وقضبانا في السجون والزنازين، توغّلوا وتضخّموا، صار خوفهم من الحياة والحضارة موت، ومن بابل إلى القدس لم يزرعوا وردة أو سلاما، دخلوا فوق الدبابة الغاصبة، تعتصرهم العنصرية والكراهية.
هؤلاء الذين لا يربّون أولادهم إلا على التطرّف القومي، لم يعطوا للعالم والديمقراطية سوى السجّانين والجلاّدين، غاب رجال القانون والمفكّرون عندهم، تحوّلوا إلى عصابة في دولة دكتاتورية فاشية لا ترى الآخرين إلا من فوهة بندقية.
لا تقبروه...اتركوه في حضني، سمعت أم ياسر توصي ولدها الشهيد وهي تقول: سلّم على عمر القاسم وعلي الجعفري وراسم حلاوة، سلّم على فادي الدربي وميسرة أبو حمدية وزهير لبادة، سلّم على قاسم أبو عكر وابراهيم الراعي وعرفات جردات، سلّم على خليل أبو خديجة وعبد القادر أبو الفحم ونعيم شوامرة واسحق مراغة، سلّم على الشهداء وعلى أشلائهم الثائرة.
لا تقبروه..اتركوه في حضني، اليوم، دقّ الجرس من يوم 25/9/2016، هناك بشارة وخبر وحيّ يعود، فلسطين نهضت وأسلمت صوتها أيّها الشهيد إليك، مشت في غضبها إلى ذروات جراحك، فأعطنا الآن يديك.