في يوم الأسير الفلسطيني 17 من نيسان، تُرى ما حال الأسـرى الآن؟ قبل السّابع من أكتوبر، كنّا نحثّهم على الكتابة ليشعروا ببعض حياة، اليوم لا يكتبون، ولا يأكلون، لا يتعالجون! سمعت خبرًا مؤخرًا يُبكي بكاءً مريرًا، لم يكتف الاحتلال بقطع الماء عن الأسرى، بل تعليمات الشيطان بن غفير جعلت إدارة السجن تُجبر الأسرى على الشّرب من ماء المراحيض! الأسير الآن يتمنّى أن يموت تحت الصّواريخ بدلًا من القهر النّفسي والجسدي الذي يعيشه في السّجون!
الحرب وحّدتنا في المعاناة فقط! النّحول يغزو الأجساد بشكلٍ ظاهر، دقّت البطون، وتهدّلت الأكتاف المرتفعة، وسقطت الأيادي على الجانبين، وغارت العيون من الشّحوب، وضمرت الخدود، ودمعت عيون الرّجال حتّى جفّت وتبنّجت، واكتفى عددٌ منهم بالتّكور في الزّوايا والأطراف يشكو إلى الله ما حلّ به، ومنهم من يشكو ويشتم الوطن وفكرة النـضال التي جرّته للسّـجن أو للحـرب! ويعمد عددٌ لا بأس به من ذوي القلوب المؤمنة إلى تصبير من حولهم، والرّبط على قلوبهم بالإيمان.
«الإيمان” إشراقة تضيء في الرّوح، حتّى لو لم يقوَ الأسـير على النّهوض من مكانه، ولا حتّى الكلام! كلّ متفاعلٍ ما زال سليمًا مهما كانت حالته، لكنّ الفئة التي تخيفك وتُبكي الحجر مَن أصابهم الصّمت المطبق ممّا يحدث لهم دون تفسير، وأصبحوا لا يصدرون الآهات أثناء التّـعذيب حتّى، شيءٌ ما انطفأ بأرواحهم، وأخفى أصواتهم! فئةٌ أخرى في السّـجون استسلموا للقدر “هذا قدر الفلسـطينيّ” بلا أيّ مقاومة، وهذا النّوع من التّأقلم وجـعٌ آخر أيضًا، معتقدين أنّ الشّمس ستطلع عليهم وهم ميّتون!
هذه الأيّام عصيبة، وهذا الزّمن فادح، لقد تعدّى الأمر الصّبر والتصبير بآيةٍ أو بحديثٍ شريف، أو بنصيحةٍ أو بجملة وعيٍ مبتكرة، لا أحد في مزاجٍ ليسمع شيئًا! صوت الانفـجارات والمـوت الهائل طغى على مناطق الاستيعاب في الدّماغ!
وفي ظلّ هذا الصّدود، فإنّ بقاء الأسـير على قيد الحياة هو الأهمّ، حتّى يصلون إلى حلٍّ منقذٍ قبل فوات الأوان! لكن..كان “الملح والماء” أهمّ عنصرين لمقاومة الإغماء والإصابة بالتّليّف الكبدي، تصوّر الآن الأسـرى ممنوعون من هذه المقاومة حتّى! “مقاومة الملح والماء” الماء مهم، والأهمّ أن يكون صالحًا للشّرب على الأقلّ، والطّعام مهم حتّى لو كان قليلًا؛ لنضمن عدم موت الأسـير! إلّا أنّ كلّ شيءٍ ينعدم تمامًا، والشّحيح المتوفر ملوّث، قد تكون بعض الملوّثات مفيدة لأجسام بعض الأسـرى، لكن هذا يعرّض الأغلبية العظمى منهم لهجومٍ كاسحٍ من الأمراض التي يعرفونها ولا يعرفونها بسبب التّلوّث، وهذا بحدّ ذاته سياط تعذيبٍ آخر.
أكلتنا الحقيقة، وقتلتنا فكرة التّمسك بالأرض، وسحقتنا أقدام الظّـلم والظُّـلّام، أيّ عدلٍ يدفع الفلسـطينيّ أن يهب عمره للأرض مع فقدان فرصته المستحقّة في العيش بها بعد التّحرّر على الأقلّ ليومٍ واحد أو لساعةٍ واحدة؟ قد يهون الجـوع والمـرض، وقلّة الأكل وعدم الاستحمام، والبطانيات الرّقيقة وقلّة النّوم، لكنّ الأنكى من ذلك، أنّهم صاروا يعـذّبونهم بالوهم والانتظار، تأجيلٌ يتبعه تأجيل، ساعات من الصّمت الطويل أمام المحاكم، الأهالي يعضّون على شفاههم من الألـم والحـسرة، وطعم الشّـقاء المجـروح ينسحب إلى دواخلنا ويجـرحنا!
الفلسـطينيّ يرمق أخاه الفلسـطينيّ بعصبيّة بسبب فصيلٍ لم يقدّم للوطن إلّا لونًا مختلفًا في العلَم، وبعدها صار علَم الفصيل وطنًا للمصالح ليس إلّا، ونُسِيَ الوطن الحقيقيّ!
أمّا العربيّ لا ينفك عن لوم الفلسـطينيّ لأنّه هو من باع أرضه منذ زمنٍ بعيد باعتقاده! علاوةً على مصيبة استبدال الغـضب الفلسـطينيّ الواقعيّ بالافتراضيّ! ويكتمل مشهد المـوت المُشكّل بحفلٍ راقص في مدينةٍ مجاورةٍ أو بلدٍ عربيٍّ مجاور! عندها تنـفجر القلوب من الغـيظ والقـهر والانتظار وحرقة اللّهفة، أمّا كبرياؤنا كفلسـطينيّين حقيقيّين ما زلنا نحاول الثّبات عليه في عصر التّطور والتّكنولوجيا وعالم حقوق الإنسان الزّائف!
من أهداف اندلاع هذه الحـرب تحـرير الأقـصى، وتحـرير الأسـرى، ورفع الحـصار وبعد عامين ما زالت القـدس أسيـرة، وذاب الأسـرى من الانتظار وقرارات الشّـيطان، وفقدت غـزّة أكثر من خمسين ألف شهـيد، بالإضافة للعدد الهائل من المفقودين تحت الأنـقاض وبسبب النّـزوح الذي فاق الوصف، علاوةً على الأزمات النّفسيّة والجسديّة للأطفال وللنّساء وللرّجال أيضًا، وظاهرة اليُتم المرير الذي يزيد يومًا بعد يوم للأطفال دون سن العاشرة، والبيوت والأماكن التي فقدت ملامحها من جحـيم النّـار والحـصار والدّمـار الممتد!
هذه طاحونةٌ لا نهاية لدورانها، أنا لا أملك الحلّ كفلسـطينيّة، ولا أؤمن بادّعاء أحدهم لمقترحٍ أو حلٍّ بشريّ، الأمر تعدّى قدرة البشر على التّفكير في حلٍّ ينصف البلاد والعباد المنكوبَين، نحن بحاجةٍ إلى معجزةٍ من معجزات الأنبياء كشقّ البحر مثلًا؛ لإنقاذ ما تبقّى من شعب غـزّة!
لكنّي أتساءل كأيّ فلسـطينيٍّ حرّ..
بعدما لم يتبق لنا منّا شيء، ماذا يمكن أن نكسب من عودٍ بعد احتراقه؟ وماذا يمكن أن نستفيد من ماءٍ بعد انسكابه في الرّمل؟ وما قيمة الصّبر على سهام المـوت بعد أن تخترق الرّوح؟ ثمّ يصفعك الجهلاء بكلمةٍ اعتادوا أن يردّدوها للفلسـطينيّ على وجه التّحديد دون إدراكٍ لثمنها الإنسانيّ الباهظ وهي: اصمدوا!! نحن منذ أن خلقنا الله في هذه البلاد ونحن صامدون بالفطرة، أرجوكم لا تقولوها الآن كحلٍّ ساذج.