حين تنبش في الموروث الفني الجزائري تتصدر المشهد ملكة الفن الجزائري فضيلة الدزيرية، تلك المطربة التي لم تنجب الساحة الفنية الجزائرية مثيلتها، كيف لا وهي التي جمعت بين روعة الصوت والعطاء للوطن، وتركت وراءها مسيرة خالدة في الفن الحوزي الجزائري، ولازالت الى اليوم أغانيها التي صدحت بها وأطربت كل من سمعها، تردد بالمسارح وأكبر الحفلات الفنية الجزائرية.
ولدت فضيلة مداني الملقبة بفضيلة الدزيرية سنة 1917 بجنان بيت المال بالقرب من حي السيدة الإفريقية بالجزائر العاصمة، ومنذ صغرها عشقت فضيلة الغناء، متأثرة بالشيخة يامنة بنت الحاج مهدي، وهو ما دفعها لسلك مجال الفن، الذي استهلته بإحياء الحفلات العائلية، واختارت غناء الحوزي الذي أبدعت فيه طيلة مشوارها الفني. وكان أول من اكتشف جمال صوتها الأستاذ جيلاني حداد حين فتح لها أبواب الغناء عبر الأثير ببرنامج إذاعي كانت تبثه إذاعة الجزائر العاصمة بعنوان: «من كل فن شوية»، ليلحن لها فيما بعد عديد الأغاني.
زواج في سن 13 عاما.. وأوّل مولود فني
في سنة 1930 تزوجت فضيلة الدزيرية ولم يتجاوز سنها 13 عاما، من رجل عاطل عن العمل يكبرها بـ27 عاما، فكانت تعمل وتتكبد مصاريف عائلتها الى أن توفي زوجها بعد خمس سنوات، فسافرت الى باريس، أين كانت تحيي حفلات للجاليات الجزائرية. ولدى عودتها من فرنسا بطلب من والدها، بدأت تجربتها بالغناء على المسرح مع عازف البيانو الشهير مصطفى اسكندراني ومصطفى كشكول. ثم انضمت إلى فرقة الفنانة الكبيرة مريم فكاي، ومن هناك تمكنت من انتاج أعمالها الخاصة، فكان أول مولود فني لها، اسطوانة ذات طابع عربي أندلسي بعنوان: «رشيق القلب».
من المسرح الجزائري إلى الأوبرا الباريسية
في سنة 1949 انضمت فنانة العاصمة الجزائرية إلى فرقة محيي الدين بشطارزي فأحيت عديد الحفلات، ومن هناك تم اكتشاف ميولاتها التي لم تقتصر فقط على الغناء، بل وكذلك المسرح، فكانت لها أدوار بعديد المسرحيات في فترة الخمسينات، نذكر منها مسرحية «ما ينفع غير الصّح»، «دولة النساء»، «عثمان في الصين»، و«موني راجل».
لكن سرعان ما عادت لتسجيل اسطوانة «مال حبيبي مالو»، واسطوانة «أنا طويري» كلمات محمد شحلاف وألحان جيلالي حداد، ثم سجلت ألبوم هوني كانوا من نوع زندالي. في سنة 1954 قدمت فضيلة الدزيرية على خشبة الأوبرا بباريس مجموعة من أغانيها، مترجمة قوة حضورها باعتلائها أرقى المنابر بالجزائر وبدول العالم..
نموذج الجزائرية المناضلة
لم تكن فضيلة دزيرية مجرد فنانة تطرب الآذان بصوتها، بل كانت أيضا نموذجا يحتذى به للمرأة الجزائرية المناضلة، فخلال ثورة التحرير المجيدة كانت تجمع الأموال لترسلها مع الفدائيين إلى المجاهدين في الجبال من أجل شراء الأسلحة والذخيرة لاسترجاع استقلال بلدها الجزائر، حتى تحوّلت الى عنصر خطير في نظر قوات الاحتلال الفرنسي التي زجّت بها أخطر السجون سجن «سركاجي»، إلا أن ذلك جعلها أكثر تحدّيا للمضي قدما في فنّها دون الاصغاء لتهديدات العدو الفرنسي.
فور خروجها من سجن «سركاجي»، بدأت في تأسيس الفرقة الخاصة بها لانشاء مدرسة قائمة بذاتها في أغاني الحوزي التي تميزت بها عن غيرها من الفنانات الجزائريات. رغم أن مسيرتها لم تكن طويلة، إلا أنها كانت كفيلة بأن تلهم كل من سمع غنائها الى أن خطفها الموت في شهر أكتوبر من سنة 1970، تاركة طفلها الذي لازال يؤنسنا في عتمة الفن في زماننا هذا..