يعتبر التحول الطاقوي حتمية لا يمكن أن يؤجلها أكثر التحسن المحتشم لأسعار النفط، فهو التحدي الأكبر لتأمين احتياجات الأجيال في مجال يرتبط بالأمن الشامل أمام توجهات توسعية للقوى الاقتصادية الكبرى في العالم للهيمنة على مصادر الطاقة والسيطرة على الأسواق.
يحتاج رفع هذا التحدي انتهاج إستراتيجية دقيقة وواضحة المعالم تراعي الخصوصية المحلية، ويتعلق الأمر هنا بدخول عالم الطاقة الشمسية الحرارية التي تتوفر فيها الجزائر على أكبر خزان طبيعي في العالم يقدر بطاقة 40 ألف مليون طن سنويا، مثلما أكده الخبير في الشؤون الطاقوية توفيق حسني، موضحا أن المسألة ترتبط بمدى الحسم في الخيار الطاقوي.
المؤشرات تفيد أن الرهان على مصادر الطاقة التقليدية غير مجد وربما مكلف مستقبلا، كما ان الغاز الصخري لا يفي بالغرض لاعتبارات اقتصادية وبيئية، ومن ثمة فان التوجه نحو الطاقة الشمسية الحرارية يمثل المخرج الاكثر نجاعة في المديين المتوسط والطويل، مما يتطلب الشروع في انجاز الهدف وفقا لرؤية مندمجة وواسعة المشاركة من جانب الفاعلين في هذا المجال.
يشير الخبير الطاقوي إلى أهمية العمل على تغيير الذهنية الطاقوية على مستوى مختلف الأطراف، انسجاما مع التوجه لإحداث قطيعة بالمفهوم الصحيح، كما ورد في رسالة الرئيس بوتفليقة لإعلان ترشحه للرئاسيات المقبلة، بحيث عبر فيها عن الأبعاد التي تعكسها التغيرات التي تحصل في العالم، وتفرض بالضرورة إدماج الشباب والكفاءات في تحقيق تلك التحولات بما يضمن حقوق البلاد في التنمية المستدامة.
ويعني هذا الأمر كافة آليات التكوين والمؤسسات والهيئات وفقا للأهداف التي تحملها هذه الرؤية، علما، كما أضاف الخبير، أن التغيير ليس سهلا، خاصة لما تكون البلاد في مواجهة أخطار كبيرة، خصوصا تلك التي تحاك من الخارج، وسجل هنا أهمية الرجوع إلى الالتفاف حول مسار الانسجام الاجتماعي باعتباره الضامن لأمن وسلامة البلاد في كل الظروف.
ونبه إلى ضرورة استخلاص الدروس من التجارب السابقة في التعامل مع الطاقة التقليدية، وقطع دابر عقلية الريع، بالانتقال للعمل على ملف التحول الطاقوي من البوابة التكنولوجية والاستناد للعلوم التي تقود إلى إنتاج القيمة المضافة، وتكييف الحلول المطلوبة مع خصوصيات السوق الجزائرية، من حيث طاقة الإنتاج ونمط الاستهلاك.
ويتمخض عن هذا الانخراط في مقاربة بناء بنية تحتية علمية للذكاء الاصطناعي(عنوان الثورة الصناعية الرابعة) الذي يوفر للكفاءات المناخ الملائم لتجسيد مشاريع ترتكز على الابتكارات والاختراعات، تماشيا مع وتيرة التغيير المطلوبة في المشهد الاقتصادي عامة والطاقوي خاصة. ويثير هذا مسألة إعادة بناء الثروة البشرية المؤهلة التي فقدتها الجزائر طيلة سنوات لأسباب أدت إليها المقاربة البيروقراطية في الاقتصاد بمختلف قطاعاته ومنها قطاع الطاقة، قبل أن يثمن ما يجري القيام به حاليا لإعادة ترميم الأرضية وتدعيمها بالاهتمام أكثر بالعنصر البشري وتجديده.
ولاحظ الخبير حسني أن الوقت لا يتحمل أكثر للشروع في بناء خيار الانتقال الطاقوي الذي يجب أن يتم في ظرف لا يتعدى السنتين، تفاديا لتضييع وقت ثمين وتحمل كلفة باهظة مستقبلا، بفعل انكماش فرص الاختيار وتقلص هامش المناورة، فليس من سبيل أنجع لانجاز هدف يرتبط بالأمن الطاقوي مثل القيام به في ظل مناخ قابل لاحتواء التداعيات شريطة انتهاج مسار متدرج وشامل لا يمس بالمكاسب بل ويفتح أفاقا جديدة للاستثمار في صناعة الطاقات المتجددة.
وأكد حسني توفيق أن الأمن الطاقوي هو حجر الزاوية لحماية البلاد وضمان حقوق الأجيال ضمن مسار التحول الطاقوي المنشود، الذي لا يحتمل الانتظار أكثر، مبرزا أن النموذج الجديد للاستهلاك الطاقوي يحدد المعامل المستقبلية، في ظل توجه العالم إلى سباق شرس على أسواق الطاقة الجديدة، بينما هناك قوى دولية تدرك ثقل الجزائر في هذا المجال، ولا تترك فرصة إلا واستعملتها للتشويش على الخيار الاستراتيجي لبلادنا.
وأوضح الخبير في هذا الشأن أن ترؤس الجزائر للجنة التحول الطاقوي في اجتماعات 5+5 المقررة بمرسيليا (فرنسا) في جوان القادم عامل إيجابي يؤهلها للشروع في تأسيس مسار التحول، برؤية محلية ودولية تدمج الطلب الخارجي على الطاقة، وبخص المر الطاقة الكهربائية التي تحتاج إليها البلدان الأوروبية ضمن معايير مراعاة البيئة حماية المناخ.
إن هذا الهدف الحيوي يحتاج اليوم لإرادة لا تقل عن تلك التي أسست ليوم 24 فيفري لتأميم المحروقات، وكل المؤشرات تؤكد أن الحسم في القرار حتمية لا تقبل التأجيل أكثر، خاصة وأن عوامل القيام بذلك قائمة على ما هناك من محدودية في الموارد المالية، وجعل التحسن المتواضع لأسعار النفط حاليا فرصة مريحة لتمويل حركية التحرر من الطاقة التقليدية.