تنفرد الجزائر بأنها «طورت مقاربة مكافحة الإرهاب فكريا»، ساهم في انتشاره «أدعياء إمامة ليست لهم الكفاءة العلمية ولا الدينية لإمامة المسجد»، «لوثت خطابهم شائبة سياسية»، بحسب ما أكد وزير الشؤون الدينية والأوقاف، وتسببت في «تحويل المساجد شيئا فشيئا إلى محطات ضد الوطن»، لافتا إلى أن سياسة المصالحة الوطنية التي بادر بها رئيس الجمهورية، بعدما حولت دور أسرة المساجد الأئمة إلى الحوار والمجادلة.
حرص محمد عيسى لدى استضافته في منتدى «الشعب»، أمس، على التوضيح بأن «اللقاء تزامن والتجربة الأولى من نوعها ممثلة في التكفل بتأطير وتدريب أئمة عاملين في دول الساحل والصحراء، في دورة تدريبية قصيرة المدى في موضوع اجتثاث التطرف والوقاية منه»، وأشار إلى أن «التصور ينبع من مدرسة نشأت في الجزائر، التي عرفت الإرهاب في التسعينيات وتفاعلت معه أسرة المساجد وفق الخطة الوطنية المتاحة في سنوات الإرهاب»، مذكرا «بأن دور الأئمة كان يتمثل في إدانة الإرهاب والدعاء للوطن والدعاء على الإرهابيين».
ولكن «لسبب خفيّ لم ننتبه إليه كلنا في زمانه»، أضاف محمد عيسى ـ كان «أغلب من يؤطر مساجدنا في الثمانينيات متطوعون، فروا من المساجد عندما ساءت الأمور، تاركين المنابر لمغامرين جدد هم أدعياء إمامة ليست لهم الكفاءة العلمية ولا الدينية لإمامة المسجد»، فضلا عن «كون شائبة سياسية لوثت خطابهم، التي تسببت في تحول المساجد شيئا فشيئا إلى محطات ضد الوطن، وأسمينا العملية في ذلك الوقت باجتثاث المسجد من انتمائه الوطني، ومن المجتمع وجعله قلعة ضد الأخير».
وقام أئمة لا تقل غيرتهم عن رجال الجيش والأمن والمتطوعين والأحرار في هذا الوطن بمقاومة هذه العملية، واستشهد ما لا يقل عن 114 شهيد محراب عددهم بعدد سور القرآن الكريم، بين مؤذن وقيّم وإمام وشيخ تم التعرف إليهم بشهادة الإدارة في إطار تعويض الدولة الجزائرية لضحايا الإرهاب، أئمة حظوا بعرفان رئيس الجمهورية بمناسبة الأسبوع الوطني 20 للقرآن الكريم، حيث خصهم بفقرتين في خطابه الرسمي، عبّر فيه عن عميق شعوره وانحناء الدولة الجزائرية للجهود التي قاموا بها.
واستنادا إلى عيسى، فإن «مرحلة المواجهة التي كانت تحصل مع الفعل الإرهابي، في أسرة المساجد لم تغير كثيرا في خارطة التموقع الإرهابي»، لأن «أفكار التكفير والإقصاء، والتمييز، والتشكيك في الانتماء إلى المرجعية الدينية الوطنية، أفكار محاولات اجتثاث المجتمع الجزائري من انتمائه الحضاري، ومحاولة ربطه بفضاء وفلك آخر كانت تعبر عنه الشعارات التي كنا نقرأها على الجدران في الشوارع منها «الدولة الإسلامية السلفية»؟.
غير أن هذه المرحلة تغيرت تماما منذ سنة 2005، عندما اقترح رئيس الجمهورية ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، وحظي باستفتاء شعبي منحه 97٪ من أصواته في 29 سبتمبر من نفس السنة، ليتحول في 28 فيفري إلى قانون السلم والمصالحة الوطنية، وشكلت، استطرد عيسى، بذلك منعرجا حاسما في استراتيجية وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، وتحول دور أسرة المساجد الأئمة إلى الحوار والمجادلة، تماشيا مع سياسة الدولة القائمة على السلم والمصالحة.
وتطوع كثير ـ وفق ما أكد ذات المسؤول ـ من الأئمة للالتحاق بمواقع الإرهابيين في الجبال لمحاورتهم وبحثوا الأسس التي يعتمد عليها الشخص الإرهابي عندما يقتل أخاه المسلم ووطنه، وعندما يعتدي على أبيه وأمه، وتبين أن هناك أسس إيديولوجية أو «أدلة» يعتمد عليها الشخص الذي يتطرف تطرفا عنيفا ليتحول بعد ذلك إلى إرهابي، لافتا إلى أن دراسة المرجعية الفكرية الإيديولوجية للإرهاب، باتت شأنا أساسيا لأسرة المساجد بإطاراتها وباحثيها وأئمتها وبجامعييها.
وتبلورت منذ العام 2006 إستراتيجية وطنية علمية بيداغوجية، سمحت ـ بحسبه ـ القول «لصاحب الشبهة إن دليلك الذي تستعمله في قتل أخيك، لأنك اجتثثت الآية القرآنية من سياقها الموضوعي، أو من سياقها التاريخي، أو ما يطلق عليها العلماء سبب نزولها»، أمر «مكن من معرفة الأحاديث التي يعتمدونها في بناء الفعل الإرهابي قولا كان أو فعلا، مثبتين بأنه بناء خاطئ لأن الحديث كذلك اجتث من سياقه الموضوعي أو التاريخي أي سبب الورود، أو أنه وظف توظيفا سياسيا وأسقط إسقاطا خاطئا على واقع غير الواقع الذي ورد من أجله الحديث.
كما ثبت من خلال الحوارات التي تمت في الجبال أو عندما نزلوا بعد المصالحة الوطنية، سواء عندما كانوا في السجون أين كانت تزورهم مجموعة كبيرة من الأئمة وتستمع إلى حججهم، أو عندما كانوا يلاقونهم في المساجد حيث يعملون على بث قيم المصالحة الوطنية للتعبير عن توبتهم، وتم الاكتشاف بأن الكثير من الفتاوى سبقت في زمان سابق ضد «التتار» أو «الافرنجة» على زمن إبن تيمية، لا يمكن إسقاطها وتطبيقها على مسلم لا ينقصه شيء مما جاء وورد في الحديث الصحيح والسنة الشريفة، التي تبين شرائط وشروط الإسلام والإيمان والإحسان.
وتبين أن هناك إرادة لتوظيف المصطلح والدليل الديني لإحداث الفعل السياسي، إلى درجة أن الكثير من المجموعات الإرهابية كانت تتخذ لها عناوين ومصطلحات دينية تمس المشاعر، كالتسمي بالكتائب على غرار «بدر»، التي نفتخر بها وحولت في مخيلتنا إلى أداة تقتيل وانتهاك أعراض... وبدأت تجربة أسرة المساجد تنجح تدريجيا لاعتمادها لغة الحوار في السجون مع وزارة العدل، وتبلورت التجربة في التفاعل الثقافي عند المناقشات، وجذبت باحثين جامعيين بدأوا يؤسسون لآلية بيداغوجية وعلمية لإبطال الأسس الإيديولوجية للإرهاب، موضحا أنهم مؤطرون في طاقم الوزارة الوصية.
وقد أثمرت تجربة رائدة ثمنتها الدبلوماسية الدينية، التي روجت بالتنسيق مع وزارة الشؤون الخارجية، ما سمح بتطوير مقاربة الإرهاب فكريا، لأن التفجير أو التذبيح أو القتل أو النسف كلها أفعال تنبني على السلوك المتشدد والمتطرف، الذي يعتبر وليد فكرة تكفير الشخص، فيها آليات إجهاض التفكير المتطرف، والأسس الإيديولوجية التي يقوم عليها.