الليلة يغيب القمر لكنك تحضر ولا أدرى أيّ منكما ينوب عن الآخر في الحضور أو الغياب، أيّ منكما غيبته السماء في بلادٍ وأضاءت به بلادًا أخرى.. تتقاذفني الحيرة في بداية حروفي فبأي منها أبدأ، بخريفك أم ربيعك، بصيفك أم شتائك، يا سيدي.. التشابه الوحيد بين فصول عامك أن كليكما مخلص، كما كلاكما غادر.. وددت أن أكتبك حين عجزت عن التواصل مع البشر، حين رغبت العزلة عنك، عن كل ما يصل بيني وبين الحياة، عن كل وريد يربط بين قلبي وبينك، بدأت أكتبك حين انفض الكون من حولي فأردت إعماره من جديد.. بدايةٌ أخرى لخلقٍ جديد في عالمٍ آخر أصنعه أنا.. وستندهش حين تراني أصور نبض شرايينك وخرائطها في جسدك، حين ترى كرات دمك الحمراء والبيضاء حروفاً منثورة فوق سطوري.. حين يغوص قلمي في بحور زمانك يرتوي من أحبار حكاياتك فيعود منتشياً يفرغ فوق صفحاتي أياماً من عمرك أنت.. من عمرٍ فات وعمر آت.. ستندهش حين تسمع صوتك من حنجرتي وحين ترى روحك أنت في وجهي أنا... يا أنا.. إنها الأساطير التي تكتب من لحمٍ ونبضٍ ودم.
بالأمس، زارني طيفك يلومني لطول الغياب، فارتميت فيك أشكوك إليك، قلت: لا تعاتبني فإنني -يا مالكي- ملكٌ لديك.. يا سيدي، كل شيء حولي يذكرني بك، حتى قصاصاتي الصغيرة، كل قطرة دم في وريدي، كل نبضة شوق تسير بقلبي، كل رعشة يد، كل لحظة عمر، كل الأسئلة والإجابات المستحيلة.. وجه القمر في السماء الذي بات معتمًا وحائرًا في غيماته، ضوء الشمس الذي أصبح و لم يعد منها ضياء غير وهجٍ يحترق، غربة النهار ووحشة الليل، شكل الحياة من بعد فقدٍ وموتٍ ووجع بعاد، كل شيء حولي يذكرني بك.. حتى تفاصيلي الصغيرة..ترى هل ما زلت تعشقني كما كنت، هل مازلت تنام مناجيًا باسمي، وتصحو على صوتي ينادي اسمك؟ كم من الوقت مر على فراقنا، هل ما زلت تحصي ساعات الفراق أم أن طول البعاد أفقدك الصبر على الانتظار فيئست من حسابات لقائي؟ أسئلتي الحيرى لا تجد إجابات لها، صار الحنينُ إليكَ يقتلني ويمزق أوصالي صباح مساء، هذا الجدار الذي صنعناه سويًا ليفصل بين روحي وروحك، بين قلبي وقلبك أراه اليوم قد انهار كما انهار حائط برلين.. برلين عادت لتتوحد بإصرار أهلها، فهل لنا يومًا من عودةٍ أخرى، بل هل من حقنا أن نعود؟ محفوفٌ لقاؤنا بالخطر، ومحاطة مشاعرنا بكل قضبان السجون، أسيران نحن لتقاليد وظروف، لتاريخ لم يرحم طفولتنا ولا صبانا ولا نضج اكتمالنا رجلاً وأنثى، أسيران لخوف من مستقبل يحكمه ماضينا..
من رواية: رجل الظل
الروائية والكاتبة: سلوى علوان / مصر
شوهد:1718 مرة