أمـــــي

غسان صالح عبد الله

تعودت أن أكتب لك في كل عام حتى بعد رحيلك..
أريد أن أبكي لأفرّغ ما في داخلي من هم وألم وحزن.. أريد أن أصرخ ليعلم الجميع من حولي أنني ما زلت أعيش.. أريد أن أكتب لك رغم أن الكلام لا يليق بك.. لأنك الوحيدة التي كنت ألجأ إلى صدرها كلما ضاقت بي الدنيا لتزيل عني همومي وألمي في ابتسامة أو دعاء..
أمي التي احترقت لتنير لي الطريق لم أكن أرى فيه أصابعي لتمردي على الزمن.. فكانت هي الشروق والسرور والصفاء والنقاء والحنان فليس لغيرها يرمز الحب..
أمي يا نبضي الساكنِ في صدري؛ يا ضمةٌ حنونة تبعد عني خوفي، أمي التي جمعتها في أعماقي لأسقيك من روحي.. تاهت حروفي يا أمي فلم أجد غيرك للحب دليلي.
أمي يا أول اسم نطقت به شفتاي؛ يا بؤبؤ العين ورموشها..
أمي لا أكترث للسنوات التي تولد ولا للسنوات التي تموت، الأهم أنك عندما كنت بجانبي كنت الزمن الوحيد الذي لا تغتاله عقارب الساعات..
حبيبتي لن أقبلك على خديك كما يفعل الآخرون ولن أضمك بين زراعي لثوانٍ كما يفعل الآخرون ولن أخترع كلاما يحمل التهاني بعيدك، أنا أحبك يا أماه بعيدا عن كل الأوقات وكل التهاني والتبريكات.. ومهما كانت الكلمات لن تستطع أن تعبر عما أحمله لك.. فأنت لست أمي في يوم عيدك فقط. بل أنت أمي في كل الساعات ولن أكتفي بتقبيل يديك والركوع عند قدميك لأدخل الجنة..
أمي أيها الملاك والقرنفلة الرائعة وحبق الحب وبنفسج ربيع الحياة.. أمي أيها الفدائي الذي وهبت نفسك لنا وكنت الربان المشاكس لعواصف الحياة فقهرت البرد والحر وسقيت بدموعك سنابل القمح والياسمين وكنت جسر عبورنا إلى شاطئ الأمان.. اجتمعت في شخصك قيمُ الكونِ كلُّها، وصنعت لنا أبجديةُ الحب والعطاء؛ أبجديةُ الأخلاق والوفاء، ورفعت لواء الجهاد حتى فارقتي الحياة..
أمي التي اجتمع في شخصها صبر أيوب، وقناعة موسى؛ وزهد عيسى؛ وجهاد محمد عليهم السلام، فكانت لا تبالي بما سيحل بها.. فالموت تتجرعه من أجلنا؛ وكان فراشها الأرض ولحافها السماء وتكتفي بلقمة طعام لتسد رمقها لتحتفظ بما تجمعه لأبنائها..
أمي التي وهبتنا كل شيء وكل ما أرادته أن نحمل الشعلة لتبقى طريقنا مضاءةً ونسيرَ دون أن نتعثر.. لنسير بشموخ رغم المحن مستمدين منها العزيمة من صبرها وكفاحها وجهادها؛ فمحبتي لك أيها الملاك سوف تستمر إلى الأبد..
عيدك يا أمي هو كلُ أيامي فأرجو أن تسامحيني لقصر عبارتي، لأنني مهما انتقيت مفرداتي فلن أستطع أن أعبر عن جزء يسير مما أحمله لك من حب..
أعذريني أيتها الملاك لأنني لم استطع أن أحقق كل ما أردته لي.. فلا طاقة لي أمام سمو عطائك، أنا معترف بتقصيري لكني بذلت كل جهدي لأكون أبنا صالحا له دورُ في بناء الحياة من أجل أن يستمر العطاء والخصب ويبقى الربيع وسنابل القمح..
والله يا أمي فتشت في القواميس والمعاجم والدواوين وبحثت في كتب فلاسفةِ العربِ واليونان لأنتقي مفرداتٍ تليق بسموك فلم أجد ما يليق.
أنت أيتها الأم الغالية استطعت أن تتربعي على عرش اللغات كلِها والباحثون جميعا تاهوا في عالمك الكبير الذي لا حدود له؛ عالم العطاء والحب.. عالم القيم والمبادئ والتضحية.. فكنت كل فصولي وكنت ملاذي وملجأي وطبيبي وجسر عبوري.. فلما تركتني أيتها الملاك..
والله لن اغفر للأقدار أخذَك إلى عالم آخر فكنت أحتاج لوجودك وأنا دائما أحتاجك..
تحيتي لك أيتها الأم الغالية ونحن على موعد للقائك..
محبتي لك مادامت السماوات والأرض
وكل عام وأنت وأمهات العالم بألف ألف خير..

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024