في اليقظة وفي المنام تراودنا أحلامنا القديمة، في أن نستيقظ في مدينة لا تحلم مثلنا بأن تكون كباقي المدائن السعيدة في تلك البلاد البعيدة.
ولكن عبثا نحاول فأحلامنا صارت مستباحة لا سامع لها ولا مجيب، تراودنا أفكار وأفكار: كيف استبيحت المدينة لتبيع شرفها بالدرهم والدينار، ويبقى وجهها شاحبا لا يستطيع أن يعيد له نضارته أيً عطار.
تستغيث المدينة كل يوم ولكن الآذان صمًت والأعين قد أعماها الحرص والأفواه يملؤها معسول الحديث: قريبا، ربما،
لم يبق الكثير، بعد حين...، وتبقى عجلة الزمن تدور لتشهد عن ردًة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وتبقى الألسن تلهج والقلوب عند الحناجر والأعناق مشرئبة وسط التصفيق العشوائي لمجتمع لا يتقن إلا المداهنة والتواطؤ المفضوح، وتبقى المدينة تشكو قلة حيلتها وهوانها على الناس، ويبقى الشارع الضيق على تعاسته ممرا آمنا لأحلامنا المعبقة بأريج الأزهار وبروائح الدوبارة والشخشوخة وضجيج الشوارع المتسخة بمياه الامطار على قلتها وبقايا آثام البشر...
هكذا تستمر وتيرة يومياتنا، في سيرورة شديدة التناقض بين منافقة المسؤول بالتصفيق والضحك على الذقون، والنقد اللاذع خلف الظهر وفي جلسات المقاهي العابرة، ويبقى الخاسر الأول والأخير تلك المدينة الحزينة التي سئمت نفاقنا وتواجدنا الهلامي وسط تناقضات لم تألفها وهي تئن تحت ركام بقايا حماقات البشر.
الًذين يدًعون حب المدينة هم أول من أساء إليها بذلك العشق الممنوع الآثم وسط عقائد بالية، فأطباق النفاق التي تقدمونها للضيوف، وتلك الهدايا التي أنتزعت عنوة من لقمة الفقراء لتقدم وسط كرنفالية مفضوحة عافها الزمن يا سادة يا كرام..
وتبقى المدينة الحزينة تشكو ربها: ردوا إلي عذريتي وبراءتي!
لأستعيد نضارتي وجمالي، أمًا أنتم الًذين تدعون حبي: فانقرضوا !