مائدة من السّماء

العربي دين - سيدي بلعباس

 من يا ترى على الباب ؟ لم يتعوّد عيسى أن يسمع جرس بابه يرن في هذه الساعة المتأخرة من الليل، إنّها 23.00، وهذه القرية الصّغيرة تخلد إلى نوم عميق بعيد المغرب، هكذا كانت منذ حلّت عليها لعنة العشرية السوداء، فحتى كلاب الشوارع تسكن على غير العادة خوفا من رائحة البارود..عيسى الذي تسلّم مفاتيح سكن وظيفي في هذه القرية الصغيرة بعيد زواجه لم يكن بإمكانه التخلي عن هذه الفرصة، فمن يستلم سكنا في هذه الحقبة المظلمة كأنما استلم تذكرة سفر إلى البقاع المقدّسة، ولم تكن عملية التحديث الجديدة قد جرت على تفاصيل حياته، وهو الذي ألف روتين المدينة الماتع، الأهم من كل هذا أنه استقل بسكنه الخاص.
يرن جرس الباب بإلحاح..تردّد عيسى لحظة قبل أن تبصم عينه على ثقب الباب..يا إلهي!!!إنه عمي الطيب!!! همَّ مرتجفا يفتح باب بيته. لعمي الطيب رصيد من الحب لعيسى يزداد يوما بعد يوم، لم يتصوّر نفسه مارا على القرية التي يسكنها ابن أخيه دون أن يسلم عليه، كم كان بطيبته وحنانه كأب لابن أخيه، وكم كان فخره به كبيرا وهو يراه يحقق النجاحات في حياته..عمي الطيب كان عبقري الديزل “diesel”، يقول عنه سائقو الشاحنات الكبيرة إنّ الألمان كأنّما صمّموا محرك الديزل لعمي الطيب، فبمجرد مسحة سحرية من يده تستجيب الشاحنة مهما كان عطبها، لهذا السبب عاش كقطعة شطرنج متنقّلا وسط خريطة البلاد المنبسطة، فإذا ما حدث عطب في شاحنة أينما كانت يطلب صاحبها عمي الطيب ولو تعطلت عند أسفل الخريطة..
يدخل عمي الطيب لبيت ابن أخيه أول مرة..كم كان غبوط عيسى كبيرا بهذه الزيارة المفاجئة، فمنذ أن استلم هذا السكن الذي يبعد عن مدينته بـ 19 كلم لم يتجرأ أحد على طرق بابه، حتى أنه وصفه يوما بالمنفى، آآآآآآه عمي الطيب كم كنت رائعا وأنت تثبت بهذه الزيارة أن لا أحد يحتل مساحة حب في قلبك كتلك التي خصصتها لعيسى..
- تفضل عمي..ادخل..يا مرحبا..ما أسعدني بك!!! ويهيم عيسى بعناق لم يتساءل خلاله عن كنه هذه الزيارة في هذه الساعة المتأخرة من الليل.
- لا يا ابن أخي..سأسلم على زوجتك وابنتك ثم أنصرف، صلحت شاحنة في عين تموشنت وقد أقسم علي صاحبها أن أبيت عنده الليلة، وهو ينتظرني مع اثنين آخرين في سيارته، لم أستطع المرور على بيتك الجديد دون أن أسلم عليك..
لم يتمكّن عيسى من التغلب على خواطره التي تتمنى أن يجلس إليه هذا العم المبارك، فلم تطاوعه نفسه ليتركه ينصرف، فأقسم عليه أن يدخل هو وجماعته ليتناولوا وجبة خفيفة ثم يكملوا طريقهم..الغريب أن عيسى دعا الجماعة وبيته قد هجرته الجرذان، فالوقت متأخر وهذه القرية لا يعرف فيها من ينقذه من هذا المأزق الذي وقع فيه، فلا شيء في البيت يؤكل، ولا أصحاب الدكاكين يمتلكون الشجاعة لفتح الباب لأي طارق..المهم أن المأزق زادت رقعته والضيوف داخل البيت وقد استجابوا للدعوة.
أخذت حماة عيسى التي حلت على ابنتها ضيفة منذ الصباح تمطر ابنتها بجمر لوم أحلى منه الجلد دون شفقة..”..ليس هكذا تبنى البيوت يا ابنتي!!! أهكذا ربيتك؟؟؟ اين عار الضيف؟؟؟ ألم أخبرك يوما أن زادا ينبغي أن يخبأ لمثل هذه المأزق؟؟؟ أنتن بنات اليوم يستحيل أن تكن ربات بيوت مقتدرات!!! أقسم لك أن غليلي يشفى لو أن زوجك يكسر لك ضلعا في هذه اللحظة..”.
كل هذا يحدث والحماة تلقي بلومها المهموس المهووس على ابنتها التي اصفر لون وجهها وهي تصارع أمواج هذه الكارثة التي وقعت فيها، ولم تكن المسكينة حينها قد تعوّدت على مثل هذه المآزق كي تتصرف بحكمة وهي التي تفتح بيتا جديدا بمجرد زواجها، وأما عيسى فقد تمثل في صفة “هبل” وهو يستمع إلى أهازيج حماته المهموسة وهو عاجز عن التفكير، كل هذا يحدث وعمي الطيب يجالس مرافقيه داخل صالة الضيوف وأصوات قهقهاتهم تسقف البيت دون أن يعلموا بما يحدث خارج أسوار الصالون..المهم أن الورطة تزداد شدة والوقت يمر..
تتفاقم حدة الأزمة والوقت يمر، وقد ضاقت نفس عيسى بما يحدث، حينها رن جرس بابه مجددا..أطل عيسى من العين فإذا به يرى باب جاره منفرجا نسبيا، توقع أن تكون جارته الخلوقة هي من تود الحديث إلى جارتها، فطلب من زوجته أن تستجيب للنداء، لقد كانت هذه الجارة المحتشمة ذات أخلاق عالية، صامدة في جميع المآزق التي يقع فيها بيتها، محتسبة شاكرة، هي الأخرى كانت حينها تمر بأزمات عائلية لا يرجى فرجها، ومع ذلك تتمثل في صورة المرأة الصالحة التي تصطبر لمعارك الحياة.. تشير إلى زوجة عيسى أن أقبلي، تدحرجت زوجة عيسى نحو بيت جارتها وهي لا تفهم ما يحدث، ظنت للحظة أنه ربما طارئ مرضي من استدعى تلك الحركة..فتحت الباب على مصراعيه، وطلبت من جارتها أن تمسك من الزاوية المقابلة للمائدة الطويلة العريضة..لم تصدق زوجة عيسى ما رأت، كأنما هي مائدة من السماء، وقد افترشت ما لذ وطاب كأنها صورة من صور موائد ألف ليلة وليلة، وقبل أن تمسك المائدة من الزاوية المقابلة سألت جارتها وهي تسبح في غياهب العجب:
- ما هذا يا جارتي العزيزة؟؟؟ أنا لا أفهم شيئا..
- ألم يحل عليكم ضيوف هذه اللحظة؟
- بلى!!!! لكن هذه الصدفة الغريبة تغرقني حيرة..
- نعم جارتي العزيزة..فمنذ أن توفى الله حماتي تعيش عائلة زوجي خلافا خانقا لأسباب واهية، والليلة قرّر زوجي أن يجمعهم على مأدبة عشاء فاخر وقد دعاهم جميعا سعيا إلى الصلح ولمّ الشمل، وقد قضيت اليوم كاملا في المطبخ أبدع لهم لوحات أطعمة شهية، لكن أخواته فضلن إشعال نار الفتنة فأقسمن على رفض الدعوة، انتظرنا لساعات حلول العائلة، وعندما ذهب إليهم جارك ليتفقدهم بعد أن تأخروا أخبروه أنهم قرروا رفض الدعوة، فجلست أبكي حظي التعس وأنا أنظر إلى المائدة التي زينتها بأشهى المأكولات، حينها سمعت جرس بابكم يرن وقد دخل عليكم الضيوف، فعلمت أن الله قد كتب لهؤلاء هذا الرزق كله، فهنيئا لعمي الطيب ورفقائه بهذه المأدبة الشهية..  
كم كان رائعا أن تستمتع بقرع الملاعق وقد كنت في ورطة…أخذ عمي بوزيان - صديق عمي الطيب - يتناول ما طاب بينهم تارة ثم تارة أخرى يقبل خد عمي الطيب وهو يقول: “..ما أجمل خطاك صديقي الطيب..لم أتوقع منك هذه المفاجأة”، أما عيسى فأضحى يلوك لحماته كالمجنون كلمات حكيمات: “إنها مائدة من السماء”.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024