في زنزانة شبيهة بالكهف لا فرق بين ليلها ونهارها ولا صبحها ولا مساءها لا ترى النور إلا من فتحة صغيرة في الجدار تخترق عبرها أشعة الشمس طريقها مستقرة في صدر الجدار المقابل منيرة إكفهار المكان قليلا، لكنها كانت تنطفئ أحيانا عندما تمر إحدى الحمامات أمام الفتحة مطلقة هديلها الحزين.
ليعود المكان لسابق عهده، وسقفها الذي تآكل من الرطوبة تتقاطر منه قطرات الماء. نحو الأسفل مشكلة سطحا كثيفا من الإخضرار وإنعراجا صغيرا فيه، وبابها الذي علاه الصدأ لم يفتح منذ زمن بعيد تفننت فيه العنكبوت في نسج خيوطها وخياطة مرتع واهن لها تنزل منه وإليه ذهابا وإيابا ليشكل هذا المنظر لوحة رسمها الحزن ولونها اليأس والسواد ….
كانت جالسة في إحدى زواياها تضع رأسها بين قدميها وتسرح بخيالها بين غياهب الماضي وأحداث الحاضر، كانت تارة تتذكر ماضيها الجميل في قريتها فردوسية المنظر طيبة السكان هادئة الأجواء وحياتها القديمة تبتسم وتتذكر أنها مجاهدة أقسمت بالتضحية في سبيل هذا الوطن ولبت نداءه ووعدت بالولاء له دائما تبتسم أكثر،ولكن عندما تتذكر كيف فقدت جميع أهلها ومن أحبتهم أمام عينيها بسبب المحتل الظالم الذي أحرق الاخضر واليابس من الشجر والصغير والكبير من البشر في قريتها تبكي بحرقة وبأنين يكاد يكون مسموعا ما إن تتذكر أنهم شهداء التراب والشرف تمسح عبراتها وتعود لإبتسامتها، كل ماكان يجول في خاطرها جعلها لا تتكلم إطلاقا، فترة، وفترة طويلة، فهي مسجونة منذ قرابة العام ولم تر نور الشمس، منذ ذلك اليوم إلا عبر الفتحة. حتى رفيقتها في الأسر عديمة الكلام لم تنطق حرفا ولم يسمع لها صوت وهي أسرت قبلها بمدة …
وقع أقدام مقترب، يقترب أكثر ..
فتح الباب ..
أنيرت الزنزانة إنارة قوية فغطت عينيها بيدها لشدتها فقد إعتادت إكفهار المكان،
دخل ضابطان فرنسيان ..
أحضرها ….
قال بصوته الثعباني: إنهضي..
رفعت رأسها إليه ببطء.
ألا تسمعين؟ ..
أمسك ذراعها بعنف لتنهض ..
ما إن وقفت ومشت خطوتين، لتقول عديمة الكلام لأول مرة يسمع لها صوت ..
ستذهبين؟ ..
لتجيبها مع ابتسامة: نعم .
سلمي على الجماعة إذا..
سأفعل، طلب آخر ؟
لا، سألحق بك وبهم قريبا ..
وضحكتا معا ..
استشاط الضابط غضبا ودفعها بقوة للخارج وأوصد الباب…
ليسمع أصواتا مدوية من كل أنحاء السجن صارخة من الزوايا باسم تحيا الجزائر وما كان على الحرس إلا إخراسهم......
تحيا الجزائر
المجد والخلود لشهدائنا الابرار