هل من جديد يا ساعي البريد؟

حركاتي لعمامرة

أرقبُ كلّ يوم قدومكَ الجميل على ظهر دراجتك الزرقاء، كزرقة سماء قريتنا، كنتُ كلما رأيتكَ بتلك البذلة الرسمية وأنتَ تضع على رأسكَ قبعة زادتك هيبة ووقارًا، رأيتُ فيكَ أملًا يتجدد كل يوم، بمستقبل أكثر إشراقًا ونورًا، وأنا الذي أعيش عزلة ما بعدها عزلة، ليلي كنهاري داخل كوخي الطيني الذي يقع على ضفة الوادي الذي أتت عجاف السنين على آخر قطرة ماء كانت بالأمس القريب تسيل منسابة بين الصخور، رقراقة تسرّ الناظرين، ومن هناك تظهر بساتين النخيل على الضفة الأخرى للوادي بمحطة برج الترك، حيث قلة الماء وعبث الإنسان بها أحال النخيل على شيخوخة مبكرة، فهي تنظر إلى السماء لتشكو ربها ظلم الزمان والإنسان رغم وفاء المكان..
داخل كوخي الذي يتهاوى كل يوم أعيش حياتي بكل بطء، كتب الله لي أن أعيشه بعدما كانت يومياتي تضج بالأحداث المتتالية.
وبعد وفاة أم الأولاد رحمة الله عليها، وانفراط عقد الأبناء الخمسة الذين توجّه كل منهم إلى وجهة تناسب عمله ومستقبله، وأختهم الوحيدة التي تعمل طبيبة بأحد مستشفيات العاصمة، لأبقى وحيدًا أعدّ لحظات عمري ثانية بثانية، وأظل أنتظرك يا ساعي البريد لعلّ في حقيبتك أملًا جديدًا..
وتأتي كعادتك إلى حيّنا، وبكل أمانة سعاة البريد توزع الرسائل بالعدل على أصحابها، أما أنا فيظل قلبي يخفق ويشتد خفقانًا، وأنا أمنّي النفس بجواب مِن منى أو أحد إخوتها ولكن..!
أحاول أن أخفي دمعتي وأن أواري حزني الذي يمزّق أحشائي كل لحظة وحينٍ، وأنا أشاهد الفرحة في عيون الناس، دون أن ينتبه لي أحد ليرأف بحالي.
فأعود أدراجي ككلّ يومٍ، لأفتح المذياع لأستمع إلى السائحي وهو يحاول ببحّتهِ أن يلوّن بعضًا من يومياتي بقصصه التي تبعث على الابتسام، فتجدني في حوار دائم مع جدران الدار، التي شهدت على يومياتي السعيدة، قبل أن أتحوّل إلى قطعة أثرية تمّ التنازل عليها لتتقاذفها ظروف الزمن، فلم يعد العيد عندي عيدًا ولا الفصول فصولًا ولا الأيام أيامًا، فأضحت يومياتي تشبه بعضها، في انتظار اليوم الموعود..
كلما تناهى إلى سمعي عزف موسيقي أو زغردة قادمة من بعيد،  تذكرت ليلة فرحي أو فرح أبنائي، وكلما سمعت طرقًا على بابٍ إلّا وقلتُ في قرارة نفسي حمدًا لك ياربّ لقد عادوا...!
ويبقى قلبي يخفق بسرعة متناهية، كلما رأيتُ طيفك قادم من بعيد.. فهلا أسعدتني يا ساعي البريد..؟

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024