انتقلت إلى ذمّة الله ورحمته سيدة من سيدات هذا العصر، امرأة استثنائية بكل ما تحمله الاستثنائية من أصالة ورزانة ورجاحة عقل وأخلاق...هذه السيدة التي من حظّي أنّها حماتي، تشرّبتْ روح المرأة الفارسة، المكافحة من أجل عائلتها، الصبورة على مصاعب الحياة، النّبيلة في معاملاتها، المترفعة على صغائر الأمور...كان لها قلب يسع الجميع، وعقل متفتّح على الجميع، وأخلاق تسامح الجميع...كانت الأم بأتم معنى الكلمة...كانت أمي أنا أيضا!
طيلة خمس وثلاثين سنة من زواجي بابنتها الصغرى، والصغرى دائما هي الأحب لقلب الأم، لم أسمع لها صوتا مرتفعًا، ولا كلمة في غير محلها، ولا سحابة غضب على وجهها، حتى في عزّ خلافي مع ابنتها دائمة الشّكوى منّي، كانت تقول لها بهدوء ورزانة الأم: لا أرى في الرجل ما يُعاب عليه!..وأعتقد أنّ تلك العبارة هي التي كانت ترمّم حصن عائلتي كلما حدثت فيه شقوق أو انهيارات...كانت حريصة على عائلتي حرص الأم على سلامة العش الذي يجمع صغارها.
تلك السيدة التي تربّى خمسة أجيال على يدها، عاشت حياتها في الجهة المسالمة من الحياة، لا تتحدث إلا نادرا عن تاريخها، تاريخها الذي تكتنز أحداثه كما تكتنز المكتبة معارف ومعلومات عصرها. كانت شاهدة على أحداث تاريخية كبرى منذ أحداث 8 ماي 1945 وسنوات الثورة التحريرية التي أشربتهم الوطنية، وحولت بيتهم العائلي الكبير إلى ملتقى للمجاهدين فيه يأكلون ويستريحون ويخططون لاستقلال بلادهم...كانت سليلة عائلة مكلّلة بالجهاد والبطولات، وخاصة مكلّلة بنكران الذات، وهي الصفة التي تجعلها تتحدّث عن تاريخها المجيد بتواضع واستحياء.
«ماما اليامنة»، كما أحب أن أناديها، تعلمت منها الكثير، تعلّمت منها أولًا وقبل كل شيء، الروح الإيجابية، الروح التي تجمع ولا تفرّق أبدا، تعلّمت منها الصبر على منغصات الحياة، كانت جبلًا لا تهزه الرياح، وتعلّمت منها الإيمان بقضاء الله وقدره، لم أسمع لها شكوى ولا تذمّر ولا محاججة، كانت تتقبل كل شيء بإيمان لا يرقى إليه شك ولا تردّد...كانت نبتة أصيلة ويانعة في زمن قليل الأصالة والصبر.
اليوم أنا يتيم مرة أخرى، أفتقد الوجه البشوش الذي يبتسم لي في الملمات. أفتقد المحامية التي تدافع عني حتى أمام فلذات كبدها. أفتقد الكلمة الطيبة التي تعطّرُ لقائي بها. أفتقد مناداتها..ابني..وهي تقولها من قلبها السليم الذي ستلاقي به ربّها...
السلام عليك «ماما اليامنة» بقدر صلواتك وتسليمك...إلى جنّة الخلد.