أحاديث صامتة

أسماء عـيـسـي

كانت تقف إلى نافذتها في تلك الليلة الماطرة علّها تستطيع استنشاق بعضا من رائحة المطر النقية وتداعب قطراته بيداها الناعمتان، وقفت تائهة تتأمل المعقول واللامعقول من التفاصيل..
ابتسمت فجأة بعد تنهيدة عميقة ودمعة خدّ ساخنة راقصت مقلتيها السوداوين ووجنتيها الزهريتين بكل أسى وتساءلت من حولها..
ترى كيف يمكن لهذه التفاصيل الصغيرة المبهجة البسيطة أن تسعد روحي بهذا القدر؟ كيف يا الله لنسمات الهواء الباردة و كنزتي الصوفية أن تشعراني بكل هذا الدفء؟؟ ورائحة القهوة الممزوجة بدخان الحطب تحت أنغام فيروز أن تعدّل مزاجي المتقلب؟ لماذا يا الله الإنسان معقد لهذا الحد؟ إلى الحدّ الذي يجعله لا يفهم نفسه حتى ولايدرك قيمة وجوده بين كل هذه العوالم المليئة بالشعور واللاشعور..
أخذت فنجان قهوتها وهي تتمتم بصوت مبحوح بنغمة البكاء..
يا ترى ماذا كان سيحدث لو أنّني أحيط نفسي ببعض الأشخاص الغرباء المصابين بالزهايمر كنت حينها أستطيع أن أستحضر كل لحظاتي السعيدة والتعيسة رفقة الأهل والأصدقاء بين خفايا وسراب هذه الغربة اللعينة، لأتجاهل كل شيء يحيط بي وأخبرهم بأنّني أريد أن ينتهي كل شيء فما عادت لي القدرة على الاستمرار والصبر، أن أخبرهم بأنّ الوقت يعاند سكوني ولا يأبى الحراك، لأخبرهم بأنّ الجميع نائم في وسط هذا الظلام الدامس والهدوء الباهت، لأخبرهم بأنّ عيناي تحدقان لرؤية ذلك الغريب في إحدى زوايا ايطاليا لنرتشف الكثير من القهوة على تلك الطاولة الأسطوانية التي شهدت حجم خيبتي به..
ترى هل حقا يمكنني إخبارهم بأنّني في كل ليلة أبحث هنا وهناك عن سبب يجعلني أخلد للنوم في وقت مبكر، وبأنّ ذكرياتي تبعثر وجدان الروح لأجد نفسي عند الساعة الرابعة فجرا أحدق بصورته بعد أن أطلق عليه وابل من الشتائم والتهديدات وبعدها أهمس بكل ضعف وهدوء
« أحبك أينما كنت، وكيفما كنت» ..
رباااااه ما الذي أقوله أيعقل أنّني لم أستطع تجاوزه، لقد قرّرت منذ أزل أن أمضي دون أي حنين أو شوق له، من فضلك.. من فضلك أيّها الغريب أخرج من تفكيري الآن فأنا أريد أن أتخلص من كل شيء روحي يربطني بك، ففتاة مدللة وقوية مثلي تكفيها تلك الصباحات التي تنهض فيها لتواجه نفس المتاعب ونفس وجوه المارة لتزوع فيها كلمات الحب وابتسامات الشوق داخل هذا البلد الغريب الذي لم تختلف فيه صباحاتي منذ مجيئي إليه..
فجأة يرن هاتفها لتركض مسرعة وترد..
ألو من معي؟؟
ليصلها صوته الهادئ المليء بالحب بين أمواج تلك الدبدبات الناعمة، ذلك الصوت الذي يشبه سنفونيات الموسيقى العذبة.
ليجيبها بكل خبث وثقل: أغلقي النافذة ستمرضين.
لتدخل لحظتها في دوامة من الأسئلة أين أنت؟ من أخبرك؟ كيف علمت بمكاني؟
ليضحك بسخرية وكأنّه أراد أن يعيد شريط ذكرياته معها، صمت لبرهة ثم أجابها بكل ثقة: أنت أنثى المطر يا صغيرتي.
لتخبره بكل ضعف وانكسار: وأنت دوائي عند المرض.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024