متى يسكتُ البحر؟

سعيد فتاحين

«في سيرة مرزاق بقطاش»

«إنّ البحر الذي يمنحني ما أشتري به أحلامي حتى راحتي. هو ذاته الذي يبتلع كتلة من الأُمنيات جاءت هربا إليه يوماً ما وكأنه يشتمُّ رائحة الخوف من أنفس الهاربين إليه، فيضمُّهم لحضنه الأبدي، كما جرت عادته.
كغريبين من أبناء سيدي بولحروز، كانا يجران «الشّريطة» المحملة بقطع الإسفنج المُحلى، يقطعان الشّاطئ مشيا وهما حافيين، يتداولان عن بعضهما البعض الحمّالة، ويستميلان الوافدين على الرمل، تارةً ما يكون البيع نائما في الأيام العادية، أما الغنيمة تكون في نهاية الأسبوع. الجمعة والسبت يومان وهما إثنان، يستقيظان في الصّباح الباكر، يأخذان بعض البصل والطماطم والملح، وينزلان بـ «الشورت» إلى البحر، وبين الزُوار، يقضيان وقتهما في محاولة بيع أكبر عدد من الإسفنج المحلى، وعلى صوت النّوارس والغروب، يكونان قد أكملا العمل المضني، حتى يهرولان إلى «لاكريك» ويقفزان من تلك الصخور الراسية على حواف الشواطئ، لقد كان المكان المفضل للقفز، هكذا يمضي «كمال» و»جمال» اليوم في شاطئ تيزيرن٠
على غير العادة كان عام «الكوفيد» (كانت سنة الوباء) قليلة الدخل، وشحيحة الصرف، كان الشاطئ شبه خالٍ، وكانت الوفود تقضي سويعات قليلة ثم يفرون إلى ولاياتهم خوفا من مواقيت الحجر الصحي.
لطالما كان كمال، نحيف الجسد، أسمر البشرة يُربي شعره، سريع الحركة، خفيف الظل، يعتمر قبعة من لفح الشمس، ويشجع النادي الملكي قلبا وقالباً، أما جمال فكان يشجعُ «مرزاق بقطاش»، «رشيد بوجدرة».. كان الأخوين كأنهما توأمان يشبهان خطيّ البرزخ أحدهم مالح المعرفة، والآخر بسيطٌ شفاف كالماء رقراق، أما جمال كان عادةً ما يرتاد السوق المغطاة، يصعد إلى المكتبة حتى يتابع جديد الكُتّاب، بينما كمال يفضل أن يقتني الملابس الرياضية من عند «فيصل بورخصون»، وغالباً ما يُطلق ثرثراته ونكته على أخيه «المعقد»، حتّى أن القرية المتناثرة تعرف لكنة جمال بـ «كومبلكيس»، لا تزال الألقاب الفرنسية تطغى على العقول في القرية الصغيرة الشامخة في مدخل الشرقي من مدينة شرشال، وبين ساعات الحياة كان جمال قليل الكلام، ساكن الحركة، مرتب التّفاصيل..
في أواخر أوت، يكون اليوم هائجا، وعادةً ما تهرب العائلات، ويبقى أبناء البحر يحاولون السباحة في أمواج تشبه الطواحين الهوائية، لقد قرّر كمال أن يخصص اليوم للسباحة، لكن جمال ظل يردد، متى يسكت البحر...!
كان جمال جالسا على صخرة يراقبُ الأبطال بعضلاتهم وهم يحاولون السباحة في زرقة البحر الهائج، أما صاحب المقهى في الشاطئ كان يُطلق أغنية «يا البحر أديني معاك..»
فتح جمال السعفة، واتكأ على «الكرطون»، وراح يقرأ رواية.. وبين تلك الأجواء البحرية غاب جمال عن الشاطئ..
ولبرهة من الزمن سُمع صراخ يعلو، والضوضاء وبعض أفراد الحماية المدنية يحاولون الدخول إلى البحر، لكن عتمته وأمواجه المهلكة، لفظت جثة كمال.
عاد أبناء سيدي بولحروز وشاع الخبر في كل أنحاء مدينة شرشال، كمال بائع «لي بنيي» مات..
بعد أسبوع استفاق جمال من غيبوبته، وراح يبحث عمّن داخل الغرفة، ابتسمت فتاةٌ شقراء، كان الوجل يسكن عيون الطفل الحائر في رحلة البحث عن كمال، حاول التكلم وقال: متى يسكتُ البحر...! قالت الممرضة ذات القوام الرشيق والشعر الطويل والعيون الخضراء والبشرة الصفراء وكف اليد الحنين والمئزر الأزرق: لا تخف كانت مجرد سقطة من «الروشي» وذروك راك لباس...».
-»ذوقاش يسكت لبحر، كي تنوض انتايا»، كنت هامل مع لكتاب وطحت من الروشي يا جمال».
هكذا دخل كمال وهو يتحدث بروح خفيفة يُعانق أخاه، ولكن هنيهة شعر جمال بالحزن على الكتاب الذي غرق، وعلى مرزاق بقطاش الذي رحل، ولم يعد...
سرعان ما وعده كمال بأن يشتري ويقرأ نفس الكتاب الذي سقط من أجل جمال في البحر، وقرّر الأخوين فتح مكتبة في الرصيف تحت اسم «مرزاق بقطاش».

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024