تجددت في الآونة الأخيرة الدعوات الصادرة عن جماعات استيطانية متطرفة لإقامة احتفالات ما يُعرف برأس السنة العبرية في قبر يوسف بمدينة نابلس، ولمدة ثلاثة أيام متواصلة. هذه الدعوات ليست مجرد ممارسة دينية كما يحاول الاحتلال تصويرها، بل تمثل حلقة جديدة في سلسلة المخططات الرامية إلى تهويد المقامات الإسلامية والتراث الفلسطيني عبر فبركة روايات دخيلة لا تستند إلى دليل تاريخي راسخ.
قبر يوسف في نابلس هو مقام إسلامي من العهد العثماني، نُسب إلى رجل صالح يُدعى يوسف، وقد ظل لقرون تحت رعاية المسلمين من أهالي المدينة. ولم يعرف التاريخ الإسلامي أو المسيحي أو حتى اليهودي عبر العصور أي إشارة مؤكدة إلى وجود النبي يوسف عليه السلام مدفوناً في هذا الموضع. لكن الاحتلال، وكعادته، يحاول أن يُسقط روايات مختلقة على المكان، ليُعيد تشكيل الجغرافيا والذاكرة بما يخدم مشروعه الاستعماري.
انتهاك صــارخ للهويــة الدينيـة للمسلمين
إن ما يخطط له المستوطنون في قبر يوسف بنابلس ليس مجرد فعل عابر، بل هو جزء من اعتداء ممنهج على هوية المسلمين الدينية في فلسطين. تحويل مقام إسلامي خالص إلى مزار توراتي يعني انتزاع رمزية المكان من سياقه التاريخي والروحي، وفرض رواية استعمارية تُكرّس الاحتلال على حساب الحقيقة والعدالة. ولعل التجربة المرة في الحرم الإبراهيمي الشريف بالخليل خير شاهد على ذلك.
فقد كان وقفاً إسلامياً خالصاً، يرتاده المصلون من كل مكان، حتى جاء الاحتلال وحوّله بعد مجزرة عام 1994 إلى فضاء مُقسّم بين المسلمين والمستوطنين. جريمة القتل في رمضان تحولت إلى ذريعة للتقسيم والسيطرة، فغابت أصوات الأذان عن أوقاته الكاملة، وتقلّص حضور المسلمين في أقدس مقاماتهم، بينما فُتحت الأبواب أمام طقوس المستوطنين وأعلامهم. وما حدث في الخليل يتكرر في القدس، حيث يتعرض المسجد الأقصى المبارك لاقتحامات يومية منظمة.
يدخل المستوطنون بحماية الجيش، في محاولة لفرض سيادة الأمر الواقع، بينما يُمنع المسلمون أحياناً من الصلاة في مسجدهم. هذه المشاهد ليست مجرد اعتداءات متفرقة، بل سياسة ثابتة تستهدف تفريغ المكان من هويته الإسلامية وإعادة ملئه بهوية مفروضة بالقوة.
معركــة الأسماء: محـو الهويــة وإعادة رسم الجغرافيـا الفلسطينيـة
ما يجري في قبر يوسف ليس حدثاً معزولاً، بل يندرج ضمن سياسة أوسع، هي تغيير الأسماء والرموز لإعادة رسم الجغرافيا الفلسطينية. الاحتلال لم يكتفِ بالسيطرة على الأرض، بل عمد إلى تغيير أسماء القرى والمدن والجبال، محاولاً صناعة ذاكرة بديلة تبرر وجوده وتقطع الطريق على أي حق تاريخي للفلسطينيين. هذه العملية ليست مجرد تبديل أسماء، بل هي محو للهوية وإعادة تشكيل للوعي الجمعي وفقاً لرواية دخيلة.
خاتمـة: بــين فضـــح الأكاذيــب وصــون الهويـة
إن ما يجري اليوم في قبر يوسف، وما سبقه في الحرم الإبراهيمي وما يتكرر في الأقصى، يكشف بوضوح أن الصراع مع الاحتلال لم يكن يوماً على تفاصيل عابرة أو حدود مرسومة، بل هو صراع على الهوية والوجود ذاته. قد يظن الاحتلال أن الأكاذيب قادرة على تثبيت سرديته، لكن الحقيقة تظل أقوى من الزيف.
فالفلسطيني لا يحتاج إلى خرائط ليعرف أرضه، ولا إلى كتب ليتذكر مقامات أجداده، فهو يحملها في ذاكرته كما يحمل ملامح والده وأغاني أمه؛ الهوية بالنسبة له ليست وثيقة قابلة للمصادرة، بل دم يسري في العروق، وذاكرة تعبر الأجيال.
رسالتنـا للعالـم واضحــة:
- أولاً: فضح زيف الاحتلال وكشف ادعاءاته التي تحاول شرعنة الاستيطان عبر الأساطير.
- ثانياً: التأكيد على أن الفلسطيني، رغم الجراح، باقٍ على أرضه، متمسك بمقدساته، حارساً لمقامات أجداده، ورافضاً لأي محو لذاكرته.
- ثالثاً: أن هذه المعركة لا تخص الفلسطيني وحده، بل تمس الإنسانية جمعاء، لأنها تتعلق بالحق في العبادة، والحق في التاريخ، والحق في الكرامة.
وأخيراً، إن المقامات ليست حجارة جامدة، بل ذاكرة وهوية ووجود. وكل محاولة لسرقتها أو تشويهها، إنما هي محاولة لاقتلاع روح شعب بأكمله. غير أن الفلسطيني، بصلابته وإيمانه، سيبقى واقفاً أمام العاصفة، معلناً: لسنا ندافع عن مقام يوسف أو الحرم أو الأقصى وحدها، بل عن هويتنا العربية الاسلامية كلها وعن حقنا في أن نكون، وعن مستقبلٍ لا تُمحى فيه جذورنا ولا تُزيف فيه روايتنا التاريخية.