تولى عضو الكنيست اليميني المتطرف إيتمار بن غفير وزراة الأمن القومي في حكومة نتنياهو الراهنة منذ 29 ديسمبر 2022، وقام بتغيير اسم الوزارة، في خطوة رمزية، من وزارة الأمن الداخلي إلى وزارة الأمن القومي، في إشارة إلى نزعة عنصرية يكرس الكيان الصهيوني بصفته دولة يهودية قومية يمينية متطرفة.
شهدت مناطق الداخل الفلسطيني ارتفاعاً ملحوظاً في عدد القتلى في حوادث جنائية في السنتين الأخيرتين، وذلك في الوقت الذي لا يكف فيه بن غفير عن تأكيد ثنائية الردع وفرض إنفاذ القانون في كل ميدان عملية يصل إليها.
الشعبويـة وصعـود الخطــاب اليمينـي – الدينـي – المتطـرف، لمحـة تاريخيــة
يوصف القرن الواحد والعشرين بأنه عصر اليمين الجديد والشعبوية، ويأتي ذلك على خلفية صعود متسارع وغير مسبوق لقوى اليمين المتطرف عالمياً، ومحلياً في المشهد الصهيوني اليهودي تحديداً، ويتميز صعود اليمين هذا بتزعُّم قوى يمينية متطرفة كانت خارج الإجماع الوطني والحزبي لمراكز وزارية وبرلمانية في الكيان المحتل، كزعيم حزب القوة اليهودية (إيتمار بن غفير)، على سبيل المثال لا الحصر، إذ بقي على قوائم النشطاء المراقَبين من جانب الشاباك الصهيوني والشرطة الصهيونية.
وتجلى صعود اليمين المتطرف في الانتقال من دولة ديمقراطية يهودية مع كل ما في التعريف من تناقُض، فلا تكون دولة ديمقراطية وقومية - دينية في آن واحد، مروراً بالانزياح نحو اليمين، وصولاً إلى إقرار قانون القومية سنة 2018، والذي يكرس الدولة اليهودية. وقد امتاز هذا التطرف بتطبيعه صهيونيا واقترابه من مراكز صنع القرار، ويطمح هذا التحول إلى قيام المستعمرين الجدد باستبدال المستعمرين القدامى؛ لأنهم ليسوا صهيونيين بما يكفي، وبالتالي، فهم يحتاجون إلى إعادة تهويد بسبب التراخي في يهوديتهم وهويتهم، والتراجع في انتمائهم القومي (يلاحظ: هنيدة غانم، 2023).
وتتمثل قيم اليمين المتطرف الديني في النزعة السلطوية التي تقوم على فرض الهيمنة على القوى الحكومية بأشكالها المتعددة، بما في ذلك اتخاذ القرارات المهمة يمينياً وتحويلها إلى سياسات تُعمَم على المجتمع. وتستخدم تيارات اليمين الجديد مصطلحات كإنفاذ القانون وإنفاذ الحكم، بالإضافة إلى تمجيد الردع والمحاسبة والقوة العسكرية، وهذه المفاهيم تجد لها تعبيراً بارزاً في خطاب حزب “قوة يهودية” بزعامة بن غفير، الذي يكرس فيه خطاباً يحث على التزود بالسلاح من أجل مواجهة التهديد الفلسطيني على حد وصفه (يلاحظ المصدر السابق).
اقتحــام زنزانـة مــروان البرغوثي.. أهـداف ودلالات
ما زال اقتحام وزير الأمن القومي الصهيوني بن غفير زنزانة الأسير القيادي في حركة “فتح” مروان البرغوثي يثير تساؤلات ومخاوف؛ إذ انتشر مقطع الفيديو الذي يوثق الاقتحام على نطاق واسع، وقد وجَّه بن غفير فيه تهديداً مباشراً إلى الأسير مروان البرغوثي، الذي يُعد من أبرز رموز المقاومة الفلسطينية في العقدين الأخيرين، إذ قال مهدداً ومتوعداً :«لن تنتصر، من يعبث بالكيان الصهيوني، ومن يقتل أطفالنا ونساءنا سنقضي عليه، ويجب أن تعلم أن هذا حدث عبر التاريخ” (يلاحظ، القدس العربي).
اعتقلت السلطات الصهيوني القيادي في حركة “فتح” مروان البرغوثي في 15 أبريل 2002 وقدّمته إلى المحاكمة، وذلك في أوج انتفاضة الأقصى في ظل حكومة أريئيل شارون. وفي الفيديو المنتشر، قال بن غفير مخاطباً مروان البرغوثي – عضو اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” - في سجنه: “لن تنتصروا علينا، ومن يستهدف الصهاينة ومن يقتل أبناءنا ونساءنا سوف نمحوه” (“الجزيرة”). وقد أُدين الوزير الصهيوني المتطرف بن غفير بقضايا تحريض وعنصرية ودعْم منظمة كهانا الإرهابية وترويج لمواد دعائية تشجع على العنف والعنصرية.
ويعطي بن غفير أهمية بالغة إلى تصوير المقاطع الدعائية ونشْرها عبر مواقع التواصل، الأمر الذي أصبح ظاهرة وصلت إلى حد إطلاق لقب صار مثاراً للسخرية في المجتمع الصهيوني عليه؛ “وزير التيكتوك”، في إشارة إلى التوجه المحموم إلى نشْر المقاطع الدعائية بدلاً ممارسة الحكم وتحمُّل المسؤوليات على أرض الواقع، ومثال ذلك ما نشرته “الجزيرة” على منصة “إكس”، خلال زيارة بن غفير لبلدة طوبا الزنغرية في الداخل في إطار حملة لهدم بيوت فلسطينية بدعوى عدم الترخيص (يلاحظ، “الجزيرة مباشر”).
كما اشتهر بن غفير في بداية فترة وزارته بلقب “وزير الخبز”، وبالعبرية “سار هبيتا”، وذلك حين ظهر في مقطع فيديو وُصف بالصبياني وهو يتباهى بتناوُل الخبز أمام الكاميرا، ويشيد بقراره بإغلاق مخابز السجون ومنْع الخبز الطازج من الوصول إلى الأسرى الأمنيين الفلسطينيين.
وفي ظل أزمة سياسية وعزلة دولية يشهدها الكيان الصهيوني، أقدم بن غفير على حركة استفزازية للتظاهر بالقوة، فكانت النتيجة إعادة قضية البرغوثي إلى مركز الاهتمام الصحافي العالمي بهذا القيادي، وببقية الأسرى الفلسطينيين الذين يعانون جرّاء أوضاع صعبة من تجويع وعقوبات وإهمال طبي وعزل إنفرادي. وبحسب صحيفة “يديعوت”، فإن الزيارة الاستفزازية فتحت عيون كبرى وكالات الأنباء العالمية؛ كـ “سكاي نيوز”، و«وول ستريت جورنال”، و«سي أن أن”، و«بي بي سي”، على قضية معاناة الأسرى (“واي نت”).
التهديــد بنقـل رُفــات عــز الديــن القســام
تقع مقبرة القسام في بلدة نيشر المقامة على أنقاض بلدة الشيخ المهجرة قضاء حيفا، وما زالت السلطة الصهيونية تستهدف هذه المقبرة، فخلال جلسة لجنة الداخلية في الكنيست الصهيوني، دعا رئيس حزب “قوة يهودية”، إيتمار بن غفير، إلى وضع اليد على ضريح الشيخ عز الدين القسام، مطالباً بلدية نيشر بنقْل موقع القبر من مقبرة القسام، والتحفُّظ على رفاته، واستخدامها لأغراض التفاوض مع حركة “حماس”.
وتبلغ مساحة المقبرة 44 دونماً، وتعود إلى عهد الانتداب البريطاني مطلع القرن العشرين، وتُعد من أكبر المقابر الإسلامية في الداخل الفلسطيني المحتل، والتي تضم رفات المجاهد السوري عز الدين القسام الذي سقط في أثناء مقاومته قوات الانتداب البريطاني، ممهداً بذلك لتفجير ثورة سنة 1936. ويُذكر أن عضو الكنيست الصهيوني إسحاق كروزر من حزب “قوة يهودية”، ورئيس لجنة الداخلية، طرح مقترَحاً لنقل القبر (يلاحظ، محمد وتد، “الجزيرة”).
ويدعو بن غفير إلى نقْل رفات القسام والاحتفاظ بها لأغراض التفاوض، وذلك لأن القبر يشكّل مادة للتحريض ودعم “الإرهاب” على حد تعبيره، ومن طرائف الصدف وحزينها أن بن غفير يسكن في مدينة الخليل ضمن مستوطنة كريات أربع مسقط رأس القاتل غولدشتاين، وفي تلك المستوطنة يقع قبر باروخ غولدشتاين قاتل المصلين في مجزرة الحرم الإبراهيمي الشهيرة التي راح ضحيتها عشرات الفلسطينيين بين شهيد وجريح في أثناء أدائهم صلاة الفجر في شهر رمضان المبارك. وفي المستوطنة نصب تذكاري على القبر بمثابة مزار يزوره محبو غولدشتاين ومريدوه، وعلى رأسهم بن غفير الذي علّق صورة غولدشتاين في صالون بيته تفاخُراً وإعجاباً بما اقترفته يداه. فكيف أصبح قبر القسام مادة للتحريض وقد قُتل قبل قيام الكيان الصهيوني بأعوام؟ أمّا قبر غولدشتاين، فيُعد مزاراً يأمّه المتشددون من اليمين الصهيوني المتطرف.
إنفـاذ القانـون.. إنفاذ الحكم
كتب الصحافي في صحيفة يمينية آفي كوهين مقالة صحافية تقييمية بعنوان “إنفاذ القانون عند بن غفير: كلٌ منكم يتدبر أمره بنفسه”، لخص فيها ثمار سنتين من وجود بن غفير في وزارة الأمن القومي؛ إذ لم يكتفِ الوزير بتوزيع السلاح على المواطنين اليهود في فلسطين المحتلة، بل أيضاً عمل على إقامة ميليشيا مسلحة تحت اسم “الحرس الوطني”، وبذلك يكون قد اعترف بالفشل ونقلَ صلاحيات حفظ الأمن من يد الحكومة إلى يد المواطنين.
ويقول كوهين: “يَحْضُرُ بن غفير إلى ميدان بعد كل عملية يشنها فلسطيني، فيلتقط الصور، ويطلق التهديدات، ويقدّم المواعظ إلى المواطنين بضرورة التزود بالسلاح لفرض إنفاذ القانون وتحقيق الردع، متجاهلاً بذلك أحد أهم الواجبات الأساسية الملقاة على كاهل الدولة وهو حفظ الأمن الشخصي لمواطنيها.”
وبحسب الكاتب، فليست هناك جهة تراقب وتضبط فوضى حمل السلاح، وبالتالي تترك الدولة مواطنيها غير المؤهلين لمواجهة الخطر يلاقون مصيرهم، وتتخلص من مسؤولياتها وتلقي بها على كتف المواطن، وهذا تحديداً ليس إنفاذاً للقانون، إنما هو هروب الدولة من مسؤوليتها الأساسية المنصوص عليها في القانون؛ حفظ أمن المواطن.
خلاصــة
بين تشديد الإجراءات القمعية على الأسرى الأمنيين الفلسطينيين، والزيارة الاستفزازية لسجن القيادي مروان البرغوثي، ومقترح نقل رفات القسام وإزالة قبره، والجري من كاميرا إلى أُخرى لتسجيل المواقف وبث الدعاية، تتجلى سياسة شعبوية تقوم على التحريض والسعي للكسب السريع للمواقف في ميدان مواقع التواصل الاجتماعي، من أجل كسب ثقة القاعدة الانتخابية في ظل فشل 7 أكتوبر وتراجُع الردع الصهيوني وتدهوُر المشهد الأمني على أرض الواقع.
في ثمانينيات القرن الماضي، كان أعضاء الكنيست من اليمين ومن الليكود - الذي يحكم اليوم - يغادرون القاعة عندما يصعد شخص كزعيم حركة “كاخ” سابقاً مائير كهانا إلى المنصة. كان كهانا يعيش على هامش المشهد السياسي الصهيوني بما فيه اليمين المتطرف من ذلك المشهد، وقامت المحكمة بإخراج حركته خارج القانون وحظرها، واليوم، أصبح أحفاده في مركز المشهد السياسي الصهيوني وفي صلب عملية صنع القرار، ويشغل أبرز مؤيدوها، بن غفير، منصب وزير الأمن القومي المسؤول عن الشرطة وعن تطبيق القانون وعن مفوضية مصلحة السجون. وفي العقود الأخيرة، بات المجتمع الصهيوني يشهد انزياحاً نحو اليمين، مع تركيز كبير على معاداة قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتحريض ضد العرب، وتعزيز رؤية أرض فلسطين للصهاينة في ظل خطاب إقصائي متطرف، وسياسة حثيثة تهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين، إمَّا بالطرد، وإمَّا بالإبادة وإمَّا الاعتقال.
وفي ظل هذا المناخ، يجري أحد زعماء أكثر الأحزاب تطرفاً وعنصرية جرياً محموماً، بين زنزانة البرغوثي المحكوم بالسجن المؤبد، ومقبرة القسام التي يبلغ عمرها قرابة قرن من الزمن من أجل البحث عن الردع... وعن إنفاذ القانون، للتعبير عن شيء من السيادة.