زنازين الموت والجوع

بقلم : بن معمر الحاج عيسى

في قلب الليل، حيث تذوب الأصوات خلف القضبان ويضيع صدى الخطوات بين جدران إسمنتية سميكة، تتدلى على مشهد الأسرى الفلسطينيين ملامح المأساة الكبرى: جوع متعمد، مرض يتفشى كالطاعون، عزل يلتهم الذاكرة، واعتقال بلا تهمة ولا نهاية.

هنا، في زنازين الاحتلال الصهيوني، يُعاد تعريف القسوة، ويُختبر صبر البشر إلى أبعد الحدود، ويُكتب فصل جديد في ملحمة الحرية الفلسطينية التي لا تخبو مهما اشتد الحصار. منذ السابع من أكتوبر 2023، لم تعد السجون مجرد أماكن احتجاز، بل صارت مسالخ بشرية تُدار بعقلية إبادة جماعية. ارتفع عدد الأسرى والمعتقلين إلى أكثر من 11 ألفًا حتى سبتمبر 2025، بينهم 49 أسيرة و400 طفل وأكثر من 3500 معتقل إداري، إضافة إلى 2600 مصنفين كـ»مقاتلين غير شرعيين». لكن الأرقام وحدها لا تقول الحكاية؛ فكل أسير هو حياة ممزقة، وعائلة تذبل على باب السجن، وذاكرة تحاول النجاة من القهر.

التجويع…جريمة بدم بارد

الطعام، أبسط مقومات الحياة، صار أداة للإذلال. تقارير المؤسسات الحقوقية تؤكد أن الاحتلال يمارس سياسة تجويع منهجية وصلت إلى حد المجاعة. وجبات لا تكفي طفلاً واحدًا تُقسم على اثني عشر أسيرًا. أجساد هزيلة فقدت نصف وزنها، مناعة منهارة، أمراض تتكاثر كالأشباح في الأجساد الضعيفة.
 لم يعد الجوع عرضًا عابرًا، بل سلاحًا استراتيجيًا يستخدمه السجان لكسر الروح. الأسير الشبل وليد أحمد (17 عامًا) من سلواد استشهد في مارس الماضي بسجن مجدو، ونتائج التشريح قالتها بوضوح: التجويع الممنهج كان القاتل. كل وجبة ناقصة إذن هي رصاصة مؤجلة، وكل حرمان من الغذاء هو إعدام بطيء.

المــرض كســلاح

ليس الجوع وحده من يفتك. الأمراض المعدية تتحول إلى أدوات للتعذيب. في سجن عوفر وجلبوع ومجدو والنقب، يتفشى مرض الجرب (السكابيوس) بين الأسرى، حتى بين الأطفال، بلا علاج. الحكة لا تُطاق، الدم يسيل من أجسادهم، لكن الإدارة تتعمد وضع المصابين مع الأصحاء، لتتحول الزنازين إلى بؤر عدوى. الأسير أحمد خضيرات (22 عامًا)، مصاب بالسكري والجرب، فقد 20 كغم من وزنه، لم يعد يقوى على الحركة منذ شهرين، وحيدًا في معركته ضد المرض والجوع معًا.
وفي سجن الرملة، المرضى الذين كان يفترض أن يحظوا بالعلاج، تعرضوا للغاز المسيل للدموع بدل الدواء، في عملية قمع مروعة. مأساة الأسير كامل صباريني، المصاب بأزمة تنفس حادة، تختزل حجم الجريمة: شاب في العشرين من عمره، بحاجة لبخاخ دائم، يختفي خبره في زنازين مكتظة بلا هواء ولا دواء، بينما أسرته تحيا على بقايا الشائعات والقلق.

الاعتقال الإداري..محاكم بلا عدالة

ما يزيد القيد قسوة أنه بلا تهمة. أكثر من 3500 أسير يقبعون رهن الاعتقال الإداري، أسرى ملفات سرية لا يعرفونها، يجدد اعتقالهم بلا سقف زمني. المحاكم العسكرية مجرد ختم مطاطي على قرارات الشاباك، تلبس القمع ثوب القانون الزائف. 90% من استئنافات الأسرى الإداريين رُفضت، ليصبح القضاء الصهيوني شريكًا مباشرًا في الجريمة. هذه السياسة لا تستهدف الأفراد فقط، بل تسعى لتفكيك المجتمع الفلسطيني: قيادات وطنية، طلاب جامعيون، أسرى محررون، نساء، وأطفال. الجميع عرضة للاعتقال بلا محاكمة.

عائـلات مقطوعــة مـن جذورهــا

في الخليل، تحكي عائلة الشيخ رزق الرجوب قصة الأسر كقدر يتوارثه الأبناء. الأب فاقد للذاكرة في العزل الانفرادي، ابنه أحمد معتقل إداريًا تاركًا أربعة أطفال بلا معيل، وابنه محمد حُرم من جامعته ليذبل في الزنزانة. ثلاثون عامًا من الاعتقالات والاقتحامات ومصادرة الأموال، تحولت خلالها العائلة إلى نموذج حي للعقوبات الجماعية. هكذا لا يكتفي الاحتلال باعتقال الفرد، بل يعتقل العائلة كلها، ويمزق نسيجها الاجتماعي، في محاولة لقتل الروح الفلسطينية من الداخل.

موت بطيء وإعدام مباشر

منذ بداية حرب الإبادة، استشهد 77 أسيرًا داخل السجون بوسائل مختلفة: تعذيب، صعق بالكهرباء، اغتصاب، حرمان من الطعام، إهمال طبي. الاحتلال يحتجز جثامين 74 منهم، كأنه يريد أن يسجن الموتى أيضًا. ومنذ 1967 ارتفع عدد شهداء الحركة الأسيرة إلى 314. هذه الأرقام ليست إحصاءات، بل شواهد على مقابر سرية خلف القضبان.

الجنود..موت من نوع آخر

المفارقة أن القمع لم يعد يحطم الضحية فقط، بل ارتد على الجلادين. الصحافة العبرية تكشف عن ارتفاع حالات الانتحار بين الجنود الصهاينة منذ حرب غزّة: 48 جنديًا انتحروا، آلاف يعالجون من اضطراب ما بعد الصدمة، 3700 شخصوا بالانفصام الذهني، وعشرة آلاف يخضعون للعلاج النفسي. غزّة تلاحقهم في الكوابيس، صرخات الأطفال لا تغادر آذانهم، الدماء لا تُمحى من ذاكرتهم. جندي قال أمام الكنيست إنه لم يعد قادرًا على أكل اللحوم لأنها تذكره بالجثث التي مزقتها جرافته في غزّة. آخر يرى دمًا يخرج من جسده بلا جرح. هكذا تتحول الحرب إلى لعنة تطارد القاتل قبل أن تترك الضحية.

الرموز..قناديل في العتمة

رغم كل هذا الظلام، تبقى الرموز الوطنية منارات للكرامة. مروان البرغوثي، الأسير الذي يواجه خمسة مؤبدات، تحول إلى ضمير حي داخل الزنزانة. زيارة وزير الأمن المتطرف بن غفير له داخل زنزانته، مصورة بالكاميرات، كانت لحظة كاشفة: رجل مكبل يواجه وزيرًا مدججًا بالتهديدات، لكنه خرج منها أكثر ثباتًا. البرغوثي لم يعد مجرد أسير، بل قضية، ورمز لوحدة الفلسطينيين وصمودهم. الاحتلال يخاف من رمزيته أكثر مما يخاف من رصاص المقاومة، لأنه يفضح عجزه أمام الإرادة التي لا تُكسر.

شهداء يحررون الأحياء

الأسرى والشهداء معًا يشكلون معادلة الحرية الفلسطينية. «الأموات يحررون الأحياء»، كما كتب عيسى قراقع. فكل شهيد يُسقط أوهام القوة ويزرع سؤالًا في ضمير العالم: من يملك الحق في الحياة؟ ومن يملك أن يمحو الآخر؟ في غزّة، الشهداء يخرجون من تحت الركام ليحرروا الوعي، ليقولوا إن الموت ليس النهاية، بل بداية لحياة جديدة في ذاكرة شعب لا ينسى.

مسؤوليـة العالــمـ

الاحتلال يواصل جرائمه، لكن العالم يتفرج. الأمم المتحدة عاجزة، المؤسسات الدولية صامتة، والقانون الدولي يتحول إلى أوراق بلا معنى. ومع ذلك، فإن نداء الأسرى يظل صرخة مفتوحة: الحرية حق، والاحتلال جريمة، والتجويع والقتل والإهمال الطبي جرائم حرب موثقة. كل تأخير في المحاسبة مشاركة في الجريمة، وكل صمت خيانة للضمير الإنساني.

خاتمـة

في زنازين الجوع هذه، حيث يُقتل الإنسان مرتين: مرة بالقيود، ومرة بالصمت، يولد المعنى الأعمق للحرية. الحرية التي لا تعني غياب القضبان فقط، بل تعني انتصار الروح على السجان. الأسرى الفلسطينيون اليوم ليسوا ضحايا فحسب، بل طليعة مقاومة إنسانية وأخلاقية، خط دفاع أخير عن كرامة البشر في عالم يتساهل مع القتلة. إنهم يقولون لنا: «قد نذبل، لكننا لا ننكسر. قد نجوع، لكننا لا نستسلم. قد نموت، لكن موتنا حياة لكم جميعًا.» وهكذا، تبقى زنازين الجوع شاهدة على أن الحرية لا تُمنح من سجان، بل تُنتزع من قلب العذاب. وفي كل زنزانة، وفي كل قصة أسير، وفي كل شهيد يُحرم من دفنه، تنبض فلسطين بالمعنى: أن الاحتلال إلى زوال، وأن الحرية، مهما طال ليلها، آتية لا محالة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19885

العدد 19885

الخميس 25 سبتمبر 2025
العدد 19884

العدد 19884

الأربعاء 24 سبتمبر 2025
العدد 19883

العدد 19883

الثلاثاء 23 سبتمبر 2025
العدد 19882

العدد 19882

الإثنين 22 سبتمبر 2025