في مثل هذا الفجر، قبل ثلاثة أعوام، تسلّلت إلى نابلس مئات الأقدام المدججة بالسلاح.
اليمام، قناصة سايرت متكال، كتائب الهندسة، والمشاة، ووحدات الشاباك أحاطوا البلدة القديمة كما يحيط الطوق بالعنق، وأغلقوا كل منفذ للهواء والنور.
ساعات من الرصاص والنار، أصوات تزلزل الحجر قبل البشر، حصارٌ أرادوه نهاية الحكاية.
لكن حين هدأ الصخب، ودخلوا حيث ظنوا أنهم سيجدون معسكرًا مكتمل العدة والعتاد، وجدوا غرفة متهالكة…
على أرضها أرغفة خبز يابس، نصف قطعة شوكولاتة، كيس شبس، وبندقية معلّقة على جسد اخترقته مئات الطلقات.
وهموم وطن تحيط بقلبه الذي لم يكن هذا أول نزيف له، بل كان آخر نزيف؛ فقد نزف قلبه حين ودّع رفيقًا إثر رفيق، ونزف حين لم يجد ممن كان يجب أن يجد منهم العون والسند، ونزف حين حارب آخر حروبه.
لكن إبراهيم لم يكن وحيدًا…
كان معه شاب وفيّ مخلص، إسلام صبوح، الذي حمل البندقية إلى جانبه، ورفض أن يتركه مهما اشتد الحصار. وضع دمه على دم إبراهيم، ويده مع يده، فتضرجت دماؤهما معًا، وصنعا لنا مجدًا لا يُشترى ولا يُمحى.
سأل الضابط جنوده بالعبرية: “من كان يقاتلنا؟”
قالوا: “إبراهيم النابلسي”.
ظنه اسم كتيبة، فقيل له: “لا يا سيدي…إنه شاب واحد” — ولم يعلموا أن هناك روحًا أخرى تقاتل معه، اسمها إسلام صبوح، وأن الاثنين كانا كتفًا بكتف حتى آخر نفس.
إبراهيم لم يكن فردًا، كان حالة.
لم يكن اسمًا في نشرات الأخبار، بل نداءً في وعي الفلسطينيين جميعًا.
كان الدليل على أن المقاومة ليست بعدد البنادق، بل بعدد القلوب التي تؤمن بها.
لقد أعاد تعريف البطولة، وأربك العدو حتى جعله يتحدث عنه كما يتحدث عن جيش، وأحرج الجيوش بصلابته الفردية، ووفاء رفاقه.
في ذلك اليوم، انتصر إبراهيم النابلسي وإسلام صبوح…
لا بالنصر العسكري، بل بالنصر الذي يُكتب في ذاكرة الشعوب، ويزهر في وعي الأجيال.
تركوا لنا رسالة صافية:
أن كرامة وطن، أحيانًا، تختصر في شابين…
وأنهما حين يكون اسمهما إبراهيم النابلسي وإسلام صبوح، يصبحان الأمة كلّها.
وكما أوصى إبراهيم في آخر كلماته:
«شباب…بعرض خواتكم…ما ترموا البارودة”.
بقلم الأسير المحرر: رائد عبد الجليل