تحرّر طاهر..لكن لقاء النور تأجل

بقلم : هدى نعيم

في 8 ديسمبر 2011، خرج طاهر عطوة من منزله في غزّة إلى وجهة لم يكن يدري أنها ستقوده إلى غياب دام 14 عامًا خلف قضبان الاحتلال. في ذلك اليوم، غادر بيته تاركًا زوجته نور إسليم، الحامل بطفلهما الثالث، وولديه الصغيرين محمد ومعتز، على أمل أن يتصل بها خلال أيام.

لم تسمع صوته مرة أخرى إلا من خلال خبر الاعتقال الذي وصلها بعد ثمانية أيام، في ليلة صامتة جاء فيها إخوتها وعمومتها ليخففوا وقع الخبر عنها.
نور كانت في عامها الثالث في الجامعة، بين أمومتها المبكرة وكتبها الثقيلة، وحين اعتُقل طاهر كانت في منزل أهلها، تستعد لتقديم امتحاناتها، وتحاول أن تصدّق أن زوجها لن يعود قريبًا. بعد عام صدر الحكم: 17 سنة، خلف الأسوار. مرت السنوات ببطء ثقيل.
لم تكن الزيارة سوى لحظة كل شهرين، محفوفة بالتفتيش والإهانات، لكنها كانت كفيلة بأن تعيد لروح نور شيئًا من الحياة. حين منعت سلطات الاحتلال الزيارات عام 2013، لم يتبقَ لها سوى رسائل الصليب الأحمر المتأخرة، تصل بعد أشهر من إرسالها، كأنها أخبار من زمن آخر. كبر الأبناء، ومعاذ وُلد دون أن يؤذن له والده في أذنه.
غاب الأب عن لحظات النجاح، عن حفلات التكريم، عن أول يوم مدرسة، عن بناء البيت، عن تخرج نور من الجامعة ومن الماجستير. وذات يوم، أصيب محمد، طفلها البكر، بمرض مزمن خطير في الدم، واحتاج لعلاج شهري في رام الله، ثم ساءت حالته واضطرت نور للسفر به إلى مصر خلال الحرب.

في غزّة، كان الأسرى يسمعون عن الحرب، لكن ما تخيله طاهر خلف القضبان لم يكن يُقارن بما رآه حين تحرر في جويلية 2025، ضمن الدفعة الخامسة من صفقة “طوفان الأقصى”. وصل إلى غزّة فوجدها منكوبة.
مدينته التي كانت تعني الحياة صارت مدينة رماد، وحرية الخروج لم تكن سوى عبور إلى سجن أكبر.
وأكثر ما وجعه في تلك اللحظة، أن نور وأطفاله لم يكونوا في استقباله، فقد كانوا في القاهرة، يرقد محمد على سرير العناية المركزة.
يقول طاهر: “تحررت من الجدران، لكنني دخلت سجن الحرب وسجن الغياب وسجن الأسئلة”. وكان أول من خطر بباله حين خرج: “أريد أن أحتضن عائلتي”. لكنه لم يحتضنهم. كان اللقاء من خلف الشاشة، صوت نور ودموعها كانا عزاءه الوحيد، ووجودها البعيد منح لحظته المنقوصة قليلًا من المعنى.
أما نور، فقد انتظرت هذه اللحظة لسنوات. كانت تحلم أن تلبس الثوب الأبيض الفلسطيني، أن تزغرد الحارة، أن يركض الأولاد ويحتضنوا والدهم عند باب البيت. لكنها عوضًا عن ذلك، جلست خلف شاشة هاتف، تراقب الباصات التي تقل المحررين، تنتظر صورة، أو فيديو. وانهارت حين وصلها أول مقطع لطاهر، بصوته وضحكته التي تعرفها، لكنها لم تكن هناك.
في الغربة، كانت تعيش كل لحظة بوجع مضاعف: زوجها المحرر مهدد تحت القصف، وطفلها يصارع المرض، وهي تحاول أن تكون الأم والممرضة والمعيلة. تقول: “كل يوم كان معركة. اشتغلت أكثر من وظيفة، وصارت الأعباء جزءًا من يومي. ما كان في خيار غير إني أتحمل وأكمل”. وتضيف: “هو اليوم حر، بس كل لحظة بخاف أفقده. بخاف من القصف، من الغياب، من انقطاع الاتصال. وأحيانًا – وهاي الجملة بقولها بصوت مرتجف – تمنيت إنه يظل في السجن، بس يظل عايش”.
أما طاهر، فكلما تذكر نور، شعر أن الحريّة بلاها لا تكتمل. يقول: “نور مش بس زوجتي، هي كانت امتدادي وأنا في السجن. ربت عني، صمدت عني، كملت الطريق لوحدها، واليوم لما بشوفها عم تشتغل، تكتب، وتقاوم بالغربة، بعرف إنه أنا ما كنت لحالي في السجن..هي كمان كانت مقاوِمة خلف قضبان الحياة”.
ورغم الحب العميق الذي لم تنل منه المسافة، يقول كلاهما إن “الحرية ناقصة”، فالعائلة لم تجتمع بعد. هما في مكانين مختلفين، بلا بيت واحد، بلا حضن، بلا عناق حقيقي. ووسط الحرب، والغربة، والمرض، والانتظار، لا تزال الأحلام مؤجلة.

نور تختم قصتها بكلمات تكتبها باسم كل امرأة فلسطينية في المنفى أو تحت القصف:
«قولوا للعالم: المعاناة مش مشهد عابر في نشرة أخبار.
أنا نور من غزّة، من بلد صبره أطول من الحرب.
أنا من وطن يعاقَب فيه الحب، ويحاصَر فيه الفرح، وتدفَن فيه الأحلام…
لكن يظل حيًّا لأن فيه نساء ما بيكسرهن شي”.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19871

العدد 19871

الثلاثاء 09 سبتمبر 2025
العدد 19870

العدد 19870

الإثنين 08 سبتمبر 2025
العدد 19869

العدد 19869

الأحد 07 سبتمبر 2025
19868

19868

السبت 06 سبتمبر 2025