شـادي غــوادرة..

من بئر الباشـا إلى الزنزانة والمنفى

بقلم : ثورة عرفات

من أقصى جنوب جنين، من بلدةٍ صغيرة اسمها بئر الباشا..خرج طفلٌ اسمه شادي محمد حسين غوادرة، ولم يعُد إليها إلا في الذاكرة.
هل سمعتم من قبل عن قرية تنجب طفلًا، فيأخذ الاحتلال عمره كلّه؟ عن أمٍ وضعت ابنها على تراب بيتها، فسرقوه منها في عمر الخامسة عشرة؟ عن طفلٍ اعتُقل، نُزف، وحُكم بالمؤبد؟ هذه ليست حكاية رمزية…هذا واقع، وهذا الطفل اسمه شادي. لكن بداية شادي لم تكن عادية…في عمر الثالثة عشرة، نفّذ أول عملية إطلاق نار على معسكر دوثان المحاذي لقريته، برفقة ابن عمه ورفيقه محمد غوادرة، ضمن كتائب شهداء الأقصى.
واصل نشاطه حتى عام 2003 بسرّية وبسلاحه الشخصي، ومع تصاعد الانتفاضة، قرر تنفيذ عملية استشهادية داخل أراضي 48. رفضت حركة فتح ذلك لصغر سنه، فلجأ إلى مجموعات أخرى، لكنها رفضت كذلك.
عندها خطرت له فكرة جريئة: تزوير عمره، وفعلاً أخفى حقيقته وتقدم لمجموعة أخرى، حصل على السلاح، وتوجّه إلى مدينة باقة الغربية، حيث قتل ضابطًا وأصاب 4 جنود في عملية فدائية جريئة. رفض الاستسلام، واشتبك معهم حتى أصيب بـسبع رصاصات، واعتُقل من ميدان الاشتباك، لا من بيته.
في التحقيق، خدع الشاباك الصهيوني ولم يعترف على المجموعة الحقيقية، فصدر بحقه أول حكم بالسجن 24 عامًا. لكن بعد 10 شهور، أُلقي القبض على أفراد الخلية، وعاد الشاباك للتحقيق معه، وأخبروه أن بسبب صمته استمرت الخلية في تنفيذ عمليات قُتل فيها جنود. فصدر عليه حكم جديد بالسجن المؤبد.
ومنذ ذلك اليوم، لم تطأ قدم شادي أرض قريته، لم يسمع صوت أمه إلا عبر سماعة الزيارة، ولم يحتضن والده إلا في لقاءات داخل السجن، لأنه أسير مثله. قضى 23 سنة في السجن، نشأ فيه، نضج فيه، شاب فيه. في الوقت الذي كان أقرانه يدرسون، يتزوجون، يعيشون حياتهم كما يجب…كان شادي يُنتزع من عمره عامًا بعد عام، دون رحمة.
لم يعش مراهقته.
لم يجلس على مقاعد الدراسة.
لم يتمشى في شوارع قريته.
لم يلعب كرة القدم في ساحتها الترابية.
لم يعرف من الحياة سوى باب الزنزانة، وسرير الإسمنت، وصوت السجان.
كبر في الزنزانة، عاش فيها كل شيء:
العزل، التفتيش، القيد، الحرمان، المنع من الزيارة، البرد، المرض، النسيان…
في السجن، واصل تعليمه رغم كل شيء. حصل على بكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة القدس – أبو ديس، ثم بدأ ماجستيرًا في الدراسات الصهيونية،
وشارك في تعليم الأسرى ورفع وعيهم. كان عقلًا يقاوم، وقلبًا لا ينكسر، رغم كل ما سُلب منه. لكن الاحتلال لم يكتفِ بأسره، بل أمسك بجذوره كلها.
 والده أسير. إخوته: سامي ونايف، لا يزالان خلف القضبان. توفيق وبدر تحررا، لكن الجرح باقٍ. وأمه، أمّ الأسرى، لا تزال تنتظر، لم تذق طعم الفرح كاملاً يوماً. ثم جاءت صفقة “طوفان الأحرار” عام 2025، فخرج شادي بعد 23 سنة. لكن…ليس إلى قريته. ليس إلى والدته، ولا إلى بيت العائلة. بل أُبعد إلى مصر. حتى حين نال حريته…كانت منقوصة، غريبة، جريحة.
الآن، يبلغ شادي 37 عامًا، لم يعش من حياته يومًا طبيعيًا، لم يعرف ما معنى أن يشتري قهوة من دكان، أو أن يمرّ على مفترق طريق قريته بلا عسكري، أو أن يحتفل بعيدٍ عائلي بلا قيد. هو أصغر أسير فلسطيني أمضى أطول فترة اعتقال.
لم يكن شادي غوادرة حالة فردية..بل هو اسمٌ محفور في جدار الحقيقة الفلسطينية. طفلٌ تحوّل إلى رجل في الزنزانة، وشاهد على كيف يُقتل العمر على يد الاحتلال دون أن تهتز ضمائر العالم. لكن الاحتلال فشل في كسر روحه، فشل في دفن وعيه، فشل في إسكات صوته. خرج شادي من الأسر لا كمن نجا…بل كمن انتصر على آلة القمع. خرج لا ليبكي على ما مضى، بل ليُذكّر الجميع أن الحرية لا تُمنَح، بل تُنتزع، وأن القيد لا يُهزم إلا بالإرادة والعقيدة والانتماء. وإن كان الاحتلال قد سرق منه 23 سنة، فقد كسب هو ما لا يمكن للعدو أن يفهمه: كرامة لا تنكسر، وقضية لا تسقط، وجيلٌ لا يُهزم.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19871

العدد 19871

الثلاثاء 09 سبتمبر 2025
العدد 19870

العدد 19870

الإثنين 08 سبتمبر 2025
العدد 19869

العدد 19869

الأحد 07 سبتمبر 2025
19868

19868

السبت 06 سبتمبر 2025