قالوا من قريب وبعيد: تعب الحصان وهذه آخر صهلة، قلت: بل كبا الحصان وما ترجّل الفارس، ولا ولى مستدبرا القدس أو يافا أو عكا، قد أقبل واستقبل، زأر الأسد من عرينه، فجال جولة وصال صولة، ودارت عليه دورة خذلان ودالت عليه دولة متجبّر، فكان أن وافى الثّرى تارة أو وافى القيد أخرى، ومن كان نصيبه القيد حفظ العهد وما نسى..
تزأر الأسود وإن ضربت عليها الأسوار فيُسمع الصّدى، فأجفل الباغي، وتراجع المتسوّل المهادن، قالوا: صَالَحوا وقضي الأمر، قلت: بل هناك من يبعث الدّم دافقا في الشّرايين الممتدّة مائة عام أو يزيد. هناك عيون تحلّق في سمائها، وأنفاس تحيي غضبها، قال: هم فقرة فيها، قلت: بل هم عمودها والمخّ فيها والعصب. أحصوا من مرّوا بهذه المآسر، فقالوا: مليون وزد عليهم بلا حرج. قلت: أجيال تأبى الضّيم، فعلى القيد نصال العدى تتكسّر.
هم وجه البلاد وقضيتها يوم تلتفت الوجوه، وهم سادتها يوم تلتئم المجامع، مقاعدهم محفوظة مرموقة، وكلّ الخطب دونهم تتقاصر. وكلّ الخطباء عند ذكرهم تغضّ الطّرف إجلالا وهيبة، ملؤوا الرّحب فكانوا في كلّ بيت حكاية. فهم مليون حكاية أو أكثر، كيف ومتى وأين، والسّرّ واحد في الجبال والكهوف والوهاد.
هم أغنيّة ليوم كبير، وأهزوجة لحادي العيس في الطريق الطويلة والليل البهيم. وفي الوقت نفسه هم جرح لا ينسى، وهمّ لا يُلقى، هم، وما هم إلا أمّ قضت بعد طول انتظار دون أن تضمّ ابنها البطل، أو تقبّل السيف المنتضى، هم ابن يكبر دون سقيا أب أو عين ترعى. هم خطيبة تنسج ثوب الزّفاف في عالم الأحلام. هم عنوان قضيّة تأبى الانمحاء. هم عنوان الصبر والإصرار... هم على البعد والقرب عيون لا تنام. وصوت يقضّ مضاجع العدوّ، فيعيش سجنَهم السّجّان..
كاتب من فلسطين.