شيـخ المنابر وسيـف القـدس..

يوسف جمعة سلامة..فلسطين تجسّدت في رجل

بقلم: بن معمر الحاج عيسى كاتب وباحث جزائرى

في زمنٍ تباينت فيه الأصوات وتلعثمت فيه المواقف، بزغ صوتٌ نقيٌّ من بين ركام المساومات والتخاذل، صوتٌ ليس ككل الأصوات، صوتٌ يعلو في صمت الهزيمة، ويصمد في وجه العاصفة، صوته يحمل عبق الزيتون وصلابة الصخر، إنه صوت الشيخ يوسف جمعة سلامة، الرجل الذي لم يكن مجرد خطيب جمعة، بل كان جمعة الخطباء، وسراج القدس، وسيفها المصلّى في وجه الغطرسة الصهيونية التي كانت تخشى كلماته أكثر مما تخشى الرصاص.


يوسف جمعة سلامة لم يكن اسمًا عابرًا في التاريخ الفلسطيني، بل كان ملحمة تمشي على الأرض، رجلًا ولد من رحم المعاناة المقدسية، وتفتّح وعيه في أزقة البلدة القديمة التي تحمل بين حجارتها آيات من الجهاد والصبر، وتكتب في شقوقها أسماء الرجال العظماء الذين مروا منها، وكان الشيخ سلامة أحد أعظمهم.
تعلم العلم الشرعي، ولبس عباءة العلماء، لكنه لم يكتفِ أن يكون شيخًا في كتب الفقه فقط، بل كان فقيهًا في فهم معادلة الصراع، ومدافعًا عن الحق الفلسطيني بروح العالم وجرأة القائد. كان منبر المسجد الأقصى حصنه الأول، وميدانه الأوسع. هناك، حيث المآذن تصدح بنداء السماء، كان صوته يرتفع كالرعد، يزلزل أركان الباطل، ويحيي قلوب العابدين والسامعين.
لم تكن خطبه مجرد كلمات مرتّبة، بل كانت نداءات من الأعماق، تشعل الهمم، وتوقظ العزائم، وتعيد البوصلة نحو القدس، حين حاول كُثُر حرفها عن مسارها. كان الشيخ يقول في إحدى خطبه: “من نسي القدس، نسي نفسه، ومن باع الأقصى، باع شرفه، ومن صمت على تهويده، خُتم على قلبه.”
لقد عايش الشيخ سلامة كل مراحل الألم الفلسطيني، من الاجتياحات، إلى الحصارات، إلى المجازر، إلى محاولات طمس الهوية. لكنه لم يكتفِ بالوعظ والنصيحة، بل نزل بنفسه إلى الميادين، وجلس بين الناس، ومسح دموع الثكالى، وربت على أكتاف اليتامى، وكان يوزع من جيبه الخاص ما يسد رمق الأرامل والمحتاجين. لم يكن يعطيهم صدقة، بل كان يعطيهم كرامة، ويهمس في آذانهم: “أنتم تاج رأسي، أنتم من تصنعون النصر، وأنا خادمكم”.
أما دعمه المادي، فكان نبيلًا بحجم نيّته. فقد سخّر الشيخ سلامة ماله الخاص في دعم مشاريع ترميم المساجد والمراكز الدينية والتعليمية، وأسهم في بناء مراكز تحفيظ القرآن، وكان من أوائل الداعمين لصناديق دعم المرابطين في المسجد الأقصى. لم يكن ينام إلا وقائمة المحتاجين تحت وسادته، يتفقدها، ويسأل عنهم بنفسه..كان يرى في دعمهم واجبًا دينيًا لا منّة فيه.
وقد عرف عنه أنه رفض عروضًا مالية ضخمة مقابل الصمت أو الحياد، لكنّه اختار أن يكون لسان القدس وسيفها، وقال ذات مرة: “أفقر الخطباء من باعوا منابرهم، وأغناهم من باعوا أنفسهم لله والقدس”.
أما تأثيره في وجدان الشعب، فحدّث ولا حرج. فقد كان لخطبه وقعٌ كالسحر في النفوس، وكان صوته يوحّد الفصائل، ويجمع الشتات، ويبكي الصخر إن صاح: “القدس في خطر”. أحبّه الناس، ليس فقط لأنه خطيبٌ فصيح، بل لأنه عاش كما يتحدث، وصدق كما يدعو، وبذل كما ينصح. كان بالنسبة لهم مرآة الأخلاق، وضمير القدس، ونبض الأقصى الذي لا يسكت. وكان حضوره في ساحات الاعتصام يعطيها بعدًا آخر، فحين يُمنع المصلّون، كان الشيخ يركع عند الأبواب، ويسجد على بلاط الشوارع، يُصلّي تحت دخان القنابل، ويهتف: “كل أرض تطؤها أقدام المؤمنين هي ساحة رباط”.
وكان من أوائل من تصدّوا لمحاولات تقسيم الأقصى، وفضح بالصوت والصورة مخططات الاحتلال، حتى صار هدفًا دائمًا لهم، فاعتقلوه، أبعدوه، وهددوه، لكنه لم يرضخ. وفي محطات عديدة، كان موقفه المرجعي جامعًا بين الفرقاء، إذ لعب دور الوسيط بين الفصائل المتناحرة، وكان صوته هو القاسم المشترك بينهم، لأنه لم يكن فئويًا، بل وطنيًا حتى النخاع. وحين سُئل عن حزبه، قال: “أنا من حزب القدس، والقدس أم الأحزاب”.
أما استشهاده، فكان كأنه ختام ملحمة..لم يسقط في ساحة معركة مادية، بل سقط شهيدًا لكلمته، للمنبر، للموقف. فالرصاصة التي اغتالته كانت تخاف صوته، وكانت تعلم أنه إذا ما صعد منبره مجددًا، سيشعل جمرة الكفاح في الملايين. رحل الشيخ يوسف جمعة سلامة، لكن اسمه بات يُتلى في دعاء الأمهات، ويُكتَب على الجدران، ويُذكر في خطب الشباب، ويُردد في أناشيد الانتفاضة، وصوره تتصدر جدران القدس كراية وفاء لرجل لم يتبدل، ولم يُبدّل. إنه ليس مجرّد شهيد، بل هو مدرسةٌ كاملة في النضال الروحي، وصورة حية للعالم الذي يقود الأمة بالكلمة لا بالسيف، وبالعقيدة لا بالعصبية.
سلامٌ على الشيخ المقاتل بالكلمة، على المصلّي في الميدان، على الشاهد على جراحنا، والرافع راية عزّنا، سلامٌ على من صاغ للأقصى قصيدةً من خطبة، وموقفًا من دمع، واستشهادًا من حبّ. سلامٌ عليك، يا من سكنت وجداننا، ولن نكف عن ترداد اسمك في كل منبر وكل صلاة، حتى يُصلّي عليك الأقصى محررًا، وتعود القدس كما كنت تحلم، طاهرة من رجس المحتلين، مكللة بدماء الشهداء، وصوت الخطباء الأحرار. فنم قرير العين، يا شيخ القدس، فقد كنت وما زلت، أحد أولياء الحقّ في زمنٍ غلب فيه الباطل.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19784

العدد 19784

الأربعاء 28 ماي 2025
العدد 19783

العدد 19783

الثلاثاء 27 ماي 2025
العدد 19782

العدد 19782

الإثنين 26 ماي 2025
العدد 19781

العدد 19781

الأحد 25 ماي 2025