دراسات في الإبداع الفني للأسرى

بقلم : حسن عبادي عمان - حيفا

عقدت رابطة الكتاب الأردنيين في مقرّها بعمان المؤتمر الأول لأدب الحرية في سجون الاحتلال، يومي الأربعاء والخميس (16-17 أفريل 2025)، تزامناً مع يوم الأسير الفلسطيني، بمشاركة واسعة من أدباء ونقاد وأكاديميين من الأردن وفلسطين والجزائر ولبنان والعراق وحضور مهتميّن بالأسر وأدب الحريّة.


كانت الجلسة الخامسة بعنوان “دراسات في الإبداع الفني للأسرى” بمشاركة الفنان غازي انعيم/ الأردن، الفنان صالح حمدوني/ الأردن (ألقاها نيابة عنه الشاعر والمترجم نزار سرطاوي)، وإدارة الدكتورة دلال عنبتاوي/ الأردن.
كانت المداخلة الأولى للأستاذ الفنان غازي انعيم/ الأردن وعنوَنها: “إبداعات الفنانين الأسرى في سجون الاحتلال: بلاغـة إبداعـية... ومضـمـون نضـالي وإنسـاني” وجاء فيها “الفنانون كغيرهم من الأسرى داخل أسوار المعتقلات، قضوا تجربتهم ما بين التحقيق ‏والمحكمة والزنزانة الانفرادية، ووصفوها وصفاً دقيقاً ابتداء من الفترة الأولى فترة التحقيق، وهي ‏الأصعب، ولها أجواؤها الخاصة، ثم فترة المحاكمة، وهي فترة غير مستقرة للسجين، وأخيراً فترة ‏النطق بالحكم وهي التي يعرف فيها الأسير إلى أين سينتهي به المطاف، ومنهم من قرّر أن يجعل من ريشاته سلاحاً من نوع آخر، علهم يواجهون به ‏المحتل ويؤدون دوراً نضالياً من خلال الرسم، فكانت لوحاتهم أيقونات وطنية خرجت من بين ‏القضبان ومن رحم الزنازين. ‏‏
حاول الأسير المبدع أن يخرج من أسوار السجن إلى أفق أوسع وأرحب، فكان الرسم ‏المتنفس الذي يخلخل إيقاع الزمن ويغير من الشعور بثقل الأيام والساعات، حتى الثواني ‏المتعاقبة التي يكاد السجين يسمع صوت خطوها على ساحة الوقت، فينتشله الرسم من هذا ‏الضجيج.
 وتبدأ معه حالة من الانفصال عن الواقع، يخرج من بوتقة الزمن إلى التأمل والبحث ‏عن الذات عن حقيقته، إنه لا يرسم خطوطاً على الورق أو القماش، بل يرسم ذاته، يتعرف ‏عليها من خلال لوحاته، فكل خط ولون وشكل هو نافذة إلى روحه وعقله ووجدانه، إنها خلجات ‏نفسه، فيمنحنا جزءاً من روحه في لوحة، أو مجسم، أو في حركة خط ليتحرر من الزنزانة ‏والسجان، وهو عندما يمسك باللون يمارس حريته المطلقة على الورق والقماش، لذلك كل لوحة ‏رسمت داخل الزنازين تعلن حرية الأسير وانعتاقه من كل القيود التي فرضت عليه، فهو يرسم ‏ما في داخله بحرية وسرية تامة رغم أنف السجان، ويعلن من خلالها تمرده، ويسبر أغوار نفسه ‏دون أن يشعر بذلك، إنه عالم عميق من اللاوعي. ‏
لقد عمل الفن على تحويل الحرمان والمعاناة لدى الأسير إلى طاقة خلاقة وإيجابية، ترمم ‏روحه، وكأنه بلوحاته يوجه دعوة للعالم لرؤية جمال ما في داخله من جانب وقبح وفاشية ‏وعنصرية العدو من جانب آخر. ‏‏
لقد كان الفن بالنسبة للفنانين الأسرى وسيلة للتعبير عن انفعالاتهم وتحدي السجان الذي ‏يحاول النيل من إرادتهم ورغبتهم في الحياة، وبما أن السجين يعاني ضيقاً في المكان ووفرة في ‏الزمان يلجأ إلى الهروب نحو الحرية، نحو الرسم الذي يؤرخ لجحيم السجن وعذاباته ومآسيه ‏ويصوغها في قالب فني يسحب المتلقي من عالم حريته الواقعي الذي يعيش ويهوي به إلى ‏قعر غيابات الحبس ليتقمص دور السجين ولتسرد عليه الأحداث وكأنه يعايشها، ببكائية نازفة ‏تجسد ما يعانيه السجين من وجع لا ينتهي.
وتتميز هذه اللوحات بالجاذبية والتشويق والإبداع، ‏وهي تمثل أصدق مشاعر النفس الإنسانية، وهذه اللوحات تكتسب مصداقية لأنها تحكي عن ‏تجارب واقعية تعبيرية رمزية، وأن ما يميزها أن أصحابها مدفوعون بعبء ثقيل تحمله أحلامهم ‏وذكرياتهم فلا يجدون إلا الرسم متنفساً لهم. فكانوا من خلال الرسم يعيشون حياة حرة موازية لحياتهم الحقيقية القاسية، وكانوا من خلال ‏كل لوحة يبدعونها يجسدون آمالهم في اقتراب اليوم الذي ستفتح فيه الأبواب الحديدية وتهدم ‏الجدران العالية ويعانقون الحياة التي تركوها”.
وأضاف: “تتكون تقنية اللوحات التي أنتجت في داخل سجون العدو من المناديل القماشية والمناديل ‏الورقية وقماش الوسائد والورق، وبطاقات المعايدة...أما المادة التي كانت تستعمل في الرسم ‏والخط، فكانت تتكون من ألوان أقلام الحبر الناشف والمتمثلة في (الأسود والأخضر والأحمر ‏والأزرق)، والأقلام الخشبية والشمعية، والقهوة والشاي.
وكان فلتر أعقاب السجائر يستخدم في ‏الخط عوضاً عن القصبة”. وأضاف: “لجأ الفنانون الأسرى إلى استخدام العديد من الرموز في لوحاتهم، وكرّست هذه الرموز في ‏الثقافة الفلسطينية، مثل: السجن، السجان، السجين، القضبان، الباب، القيد، الأسلاك الشائكة، الهراوة، ‏الشمس، الهلال، الشمعة، الشعلة، خارطة فلسطين، علم فلسطين، الكوفية الفلسطينية، البندقية، شارة ‏النصر، قبضة اليد، المقاتل، المرأة، طائر السنونو، الحمامة، النسر، الاخطبوط، الأفعى، ‏الوردة، قبة الصخرة، شجرة الزيتون، الصبار، سنابل القمح، تمثال الحرية، السفينة، الناي، ‏الحجارة، الإطارات المشتعلة.”‏ وأنهى بقوله: “لقد كان لفن السجون انعكاسه الكبير والإيجابي على نفسية الأسرى، كونه يعبر عن ذواتهم ‏وآمالهم وطموحاتهم الشخصية والوطنية، ويخرجهم من ضغوط الاعتقال وأجواء الكبت والقيد ‏إلى عالم الخيال الرحب، وأن فن الأسرى يتضمن مصداقية، ومعانٍ، إنسانية، وبلاغة إبداعية، ‏واستطاع أن يلفت انتباه المهتمين والنقاد والفنانين”.
‏وتلتها مداخلة الفنان صالح حمدوني/ الأردن وعنوَنها بـ: “فنانون تحت الأرض- تجربة فنية من داخل الأسر” وجاء فيها: “في واحدة من تجليات التحدي والصمود والإصرار يُعرّف الأسير نفسه كـ«إنسان لم يتمكن السجان من انتزاع إنسانيته”، لذا أصرّ الأسرى على الحياة والتعبير عن ذواتهم، من خلال الكتابة والفن والدراسة ومحو الأمية جنبا إلى جنب من مواجهة السجان وسياسته القمعية وإهماله الطبي المتعمد، بهذا حققوا انتصاراتهم المادية والمعنوية، حققوا حضورهم وإنسانيتهم التي يعيدون تأكيدها في كل معركة يخوضونها داخل باستيلات العدو الصهيوني”.
تناول تجربة زهدي العدوي ومحمد الركوعي الذي قال: “رسوم وراء القضبان من واقع الأسر وأحلام السجين وصمود المعتقلين، لوحات مليئة بالعناصر والرموز النضالية، رسمتُ بأدوات بسيطة جدا، قطع صغيرة من ألوان الشمع الذي يستخدمه الأطفال ومن أقلام الحبر الجاف وعلى قطعة من القماش من وسادتي التي أنام عليها، ومن خلال النور الذي يدخل من شباك غرفتي الصغيرة، وفي زاوية بعيدة عن عين السجّان، من خلال هذه الظروف كنا نحيا ونحلم بالحرية”.
وأضاف: “مؤخرا، ومع توالي تجارب الكتابة من داخل أسوار الأسر تفاعلت فكرة الرسم مع الكتابة، فرسم الأسير جمال الهندي لوحات عديدة في الأسر واستطاع إيصال بعضها للخارج، وتم استخدامها في بوسترات لعدة مناسبات تخصّ الحركة الأسيرة، وطُبعت بعدة لغات، كما يعمل على رسم لوحات لتكون أغلفة لكتب زملائه الأسرى بعد أن يقرأها أو يواكب عملية كتابتها.
اتسمت أعمال جمال الهندي ببساطة الفكرة ووضوحها واستخدم في إنتاجها القلم والورق المتوفر في السجن، رسم عليها بطريقة التنقيط عن الأم والمرأة وفلسطين والأسرى والوقت الذي يأكل حياة الأسرى وعن العودة.
وتناول أعمال الأسير الكاتب منذر مفلح، صاحب كتاب “الخرزة”، والذي يخوض غمار فن الخزف مع الكتابة، وله عدد من الأعمال التي وصلتنا بفضل المحامي الحيفاوي حسن عبادي.
استثمر بعض مكتسبات حققتها الحركة الأسيرة عبر نضالاتها ضد سياسات الاحتلال القمعية في السجون، فتعلّم استخدام الخزف لإنتاج مجسمات لافتة، يمكن استخدامها بطرق مختلفة، لإضاءة الشموع وعلب حلوى ولوحات مختلفة، لوّنها بألوان مفعمة بالفرح والأمل، ألوان تفرك المرّ في عين السجان؛ لتؤكد أمامه دائما أن أسرانا الأحرار يستحقون الحرية..كل الحرية..الحريّة لأسرى الحريّة..

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19831

العدد 19831

الخميس 24 جويلية 2025
العدد 19830

العدد 19830

الأربعاء 23 جويلية 2025
العدد 19829

العدد 19829

الثلاثاء 22 جويلية 2025
العدد 19828

العدد 19828

الإثنين 21 جويلية 2025