حــالة ذهان

بقلم : علي شكشك

إذا كان الهدف من أيّ حربٍ في التاريخ البشري على وجه العموم هو تحقيق الغلبة على الخصم، والإجهاز على جيشه، والسيطرة على أرضه ونهب ثرواته، فإنَّ الذي يحدث في مناخنا وعلى أرضنا لهو أكبر وأكثر وأبعد وأعمق وأشمل من ذلك بكثير.

هو يشمل الأرض والتاريخ والحاضر والمستقبل، وهو يشمل باطن الأرض والأجواء، وهو يشمل الاستيلاء على المزاج والمذاق واللغة، وهو يمتدّ للتراب والمياه والأشجار، وهو يقصد إعادة كتابة تاريخ الحجر، والفضاء، وهو يعمد إلى صبغةٍ أخرى ولون آخر للمكان والسماء، وهو يطمح إلى احتلال الوعي، وتغيير وثائق الروح، وأسانيد الإرث والملكية، وهو يجهد لتكريس رموزٍ بصرية ستشكّل مع الأيام وعياً عاديّاً تلقائياً يؤسّس لادّعاءات مستقبلية، حين يكون قد مرّ على كنيس الخراب عشرون عاماً فإنّه سيكون حينئذٍ تراثاً يهودياً بهذا العمر، وتكون إزالته تعني الاعتداء على تاريخ يهوديّ ورمزٍ توراتي تمّ بناؤه منذ ثلاثين عاما.
وإذا كانت الحروب في التاريخ قد اكتفت ببعض المذابح، وتركت باقي العباد يعيشون في ظلال الإمبراطورية المنتصرة، فإنّ الأمر لا يستقيم مع الأهداف التي سبق ذكرها، ولذا فإنّ ما جرى ويجري في فلسطين لا بدّ أن يكون حاصلاً لتحقيق تلك الأهداف، والذي يُترجَمُ بإعدامٍ مطلق للسياق، شعباً وأرضاً وتاريخاً وقانونا وحضارة ومفاهيم، فلا شعب في هذه الأرض، ولا تاريخ.
 أما التراثُ فهو لهم، من الحرم الإبراهيمي والبراق ويهودا والسامرة والصخرة، إلى الفنون والفولكلور وأنماط الزراعة، وأسماء الأمكنة، ومعتقدات القبور، وأما التاريخ بثقله وأثقاله فهو سياقٌ طويل خاطئ واعتراضي يبدأ منذ الخليقة وينتهي في الخداع وأوهام الأحبار.
وهو متخيّل وافتراضي في أهواء الغزاة، المشهد إذن يستدعي حالة مرضية تفترض عالماً في ذُهانها، وتعيد بناء الكون بطريقة مرضية وتعسّفية، تعكس وتفسّر بأثرٍ رجعي كلّ أمراضهم والسمات التي وصمتهم بها الشعوب وآدابها عبر التاريخ، والتي استحقّوا بسببها اللعن من الأنبياء والنبذ من الميثاق، والخروج من سياق ركب الأنبياء.
 فهم ليسوا معنيين بشيءٍ ممّا ورد لأتباع موسى ولا عيسى وليسوا بالمطلق معنيين بنبوءات أشعيا ودانيال، وكانوا نشازاً استحقّوا أن يسلّط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة، وإذا كانت هذه حالتهم فهي أدعى إذن للعناد الذي استحقّوا بسببه ما استحقّوا أصلاً، وهو إذن العناد الذي يدعوهم لمناطحة المقدس وادّعاء الوعد واحتكار الإله وأرض الميعاد، وهو عناد مغمس بالشعور بالنفي ويقتات بالإهانة ويدعو للتمترس بالنهائي من التزوير ويسعى لمطلق النفي للجوييم، ممّا يضيء أسباب سلوكهم ويمنحنا طريقاً لفهم الكامن القادم من نواياهم.
ذهـــــان جـــــمــــــاعــــــــــي:
فالأمر يقتضي أكثر من حالة الحرب التي مردت عليها البشرية واقتاتت عليها وتدافعت في أتونها، هي شيءٌ آخر ليست الحربُ إلا إحدى تجلياته الصغرى، بل ليست إلا شرارةً أو زناداً لذلك الشيء الذي يدور، أتون من الهستيريا، يُمزّق الأنسجة والوعي والمنطق وقدرة الخيال والتوقّع على الاحتمال، ولا يقاربه في تلك الهستيريا إلا صورة مضخَّمة لتلك الغريزة التي كانت تفوح في لحظة المطاردة من نفوس أولئك الذين نشروا زكريا و{صلبوا} المسيح، مع الأخذ بعين الاعتبار تكاثر تلك الغريزة وتفاعلها بما يناسب الفرق بين عددهم عندئذٍ والآن، وإضافة فارق الربا الذي راكموه مع تدحرج الوقت، فارق الربا من تراكمات الإهانة والنفي.
وبعدما أضيف إلى الكون ختم الشريعة وخيبة أملهم النهائية من بلورة حالة الذهان الكبرى التي تتملكهم وخيبة ظنّهم وأمانيهم في الذي كانوا به يستفتحون، حتى أصبحوا هم محضَ عناد، عنادٍ للإله يتجلّى في التمادي بتجريد الآخرين منه، واحتكارهم له، وازدهار الأهواء التي تجعلهم ينسبون إليه مسوغات ترفعهم عن البشر بما أنّه اختارهم وحدهم، ومنحهم ما أرادوا أن يمنحوه لأنفسهم، في تأكيد جديد متجدّد على مرضهم الأوّل وفي حركة تعويضية عن الإهانة الكبرى والنفي من التاريخ والحرمان من شريف حمل أمانة الرسالة التي بشرت بها سابقاتها ملكوتاً نهائياً إلى آخر الزمان واستشرفته أرواح المؤمنين وتمناه ورجاه المرسلون السابقون.
 الأمر الذي فاقم ذهانهم الأوّل، وعاند أمانيّهم بالترفّع عن البشر وإلقاء إفرازاتهم وعُصابهم ممهورة برسم النبوّة التي أرادوها على قدّ هذا الانحراف وموافقةً لذلك الذهان، {فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به}، وما كان ذلك إلا لذلك، والدليل أنّ سبب الكفر هو نفسه ربما سبب نزع الأمانة منهم بما أنّهم أرادوها لأنفسهم ليستعلوا بها على البشر.
 أمر يتناقض مع جوهر الرسالة والنبوة، فهم ما رفضوها إلا حسداَ و{بغياً أن يُنزّلَ الله من فضله على من يشاء من عباده}، فقد كانوا يريدون أن يتبعَ الحقُّ أهواءهم، وكانوا يريدونه منذ البدء إلهاً لهم ينزِّلُ ما يريدون هم على من يريدون هم، فكأنّ الأمر من ذلك التاريخ إن لم يكن من قبله أيضاً، أنهم يتعالون على البشر ويباشرون نزق ادّعاء المقدس.
وما الحال في وقتنا إلا المفاقمة الكاملة لتلك الحالة الذهانية التي كانت تتعاظم كلّما تعاظمت خيبتهم وتترجم نفسها في مزيدٍ من الادّعاء والتزوير، فلا شعب هنا إلا هم، وملكية الأرض المقدّسة التي حرم الله عليهم هي لهم بصكٍّ إلهيٍّ قديم، سيفعلون كلّ ما بوسعهم لاستعادته، لقد اختلط الأمر، وتماهوا مع المسألة، فأصبحت ممزوجةً بذواتهم وأصبحت تحدياً لكينونتهم وغيّهم وكِبرِهم.
 فحتى لو اضطرّوا لتدمير العالم سيدمرونه وسيسعون إلى مراكمة القوّة وابتذال الابتزاز وتحريف الكلم وإثارة الحروب وتطوير السلاح وسرقة التكنولوجيا وإغراء من يقف في الطريق وتبديد من يقف في وجههم واستعمال المعارضات لدى الدول المشاكسة وامتلاك منابر التأثير الإعلامية وإجهاض مشاريع امتلاك القوّة لدى غيرها، فالأمر أكبر من حرب والحالة إذن هي حالة ذهان جمعيٌّ تاريخي يسعى للانتقام دون أن يدري من عماه الأول، ومن غيّه الأول في غضبٍ لم يستيقظوا منه بعد منذ ذلك الحين، بل لقد أصبح غضبا على غضب منذ أن قضى الله سبحانه بذلك {فباؤوا بغضبٍ على غضب}، فكيف لمن غضب الله عليهم أن يمنحهم الأرض التي بارك فيها للعالمين.
 وكيف لا يكون الأمر إلا ذهاناً مرضيّاً جماعيّاً لحالةٍ فريدةٍ في التاريخ تنتهج منتهى البهت والتلفيق لتعويض منتهى الهوان والذلّ، بل إنّ هذه الادّعاءات بهذه الطريقة نفسها لهي الدليل على يقينهم الكامل بكذبها، بشفاعة منتهى العناد الذي لا يتسم به إلا من حُرم من الشيء، ففيه يكمن الردُّ الذاتي على المكنون في أعماق الصدور، وما يسكنها من معرفتهم الكاملة بحرمانهم هم أنفسهم ممّا يدّعون، الأمر الذي يستوجب كلَّ هذا الغلوّ والفجور وبوضوح مطلق للرؤية تستدعي كلّ هذا الهذيان الكوني أو إن شئت كلَّ هذا الذهان.
 هذا الإحساس اليقيني الادّعائي سيجعلهم حريصين على متابعة دقائق التفاصيل لتجنّب أيّ خطأ في التدبير، وسيجعلهم يقظين حارسين لما اغتصبوا، وساهرين على إسناد الكذب، وما بحثهم في باطن الصخور إلا أحد الأمثلة التي تهدف إلى إيهام العالمين بوهمهم، فهم يعرفون ما يعرفون، لكنّهم يجيدون الجريمة الكاملة، وسيجعلهم كما في ذهان الادّعاء يستشرسون في إبادة الخصم، والاجتهاد الكامل في تفتيته ومشاكسة العالم وازدراء المبادئ والقوانين وشراء الأراضي باللفّ والتلفيق، ومصادرتها بسنّ أيّ نوعٍ من القوانين والهيمنة على المياه وبناء الأسوار والمستوطنات الجديدة والإصرار على الاستمرار في الاستيطان والالتفاف على التجميد والحرص على ديكورات المفاوضات، والإبعاد والهدم والظلم والبغي والعدوان رغم عدم احتمال مزاج العالم الذي يرفده بأسباب العدوان.
 إنّها شراسة لا يفسّرها إلا إحساسه بالملاحقة من قوّةٍ خفية طاغية تكاد تتغلّب على أسطورة ترسانة أسلحته، إنّها القوّة التي تمثل منتهى هشاشته وضعفه، تلك الكامنة في العميق من أصل الحكاية، إيمانه الحقيقي بكذبه، هذا الكذب الذي يجعل هذا الكيان مؤمناً بهزيمته في نهاية المطاف، وهي نهاية يجد صداها في نبوءات الكتاب، والتي تتحدّث عن حقيقة العهد والوعد، والتي يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، ويعاندونها أيضاً، فهي الجبلة التي تصنعهم، وتجعل من التاريخ تاريخا سائراً إلى نهاياته بغموض العقل، واستغراب الروح، يتدحرجون إليها بسنن الجاذبية، وبالقوانين الذاتية التي تحكم صيرورة الأشياء، مثل كلّ الظواهر الفيزيائية.
وهو إحساسٌ يقتات من قوانين التاريخ والحضارات أيضاً ومن سيكولوجيا المتصارعين، ففلسطين راسخة في ضمير التاريخ كمجرةٍ لا يملك المتصارعُ في سياقها إلا أن يكون مجرّد شيء في سياقها ولا يملك تغيير كلياتها التي تشكّل مطلقاً له، وهذا أحد أسباب تفاقم حالة الذهان الصهيوني الذي يعرف أنّه يصارع الوجود الكلي للشأن الفلسطيني من داخله، في نفس الوقت الذي يحاول أن ينفيه رغم أنّه هو السياق الذي نشأ فيه حسب معتقده إن سلّمنا جدلاً بروايته وانتمائه للصهاينة، وإن سلّمنا جدلاً بأنّ هذه التسمية تعني أيّ استحقاق على الإطلاق.
 وهذا الكيان هو البلورة الماديّة المتجسّدة لهذه الحالة النفسية المرضية، وترجمة لها، فهو يحمل سماتها وهواجسها وهلوساتها واضطراباتها، ممّا يفسّر كلّ السلوكيات الذهانية لهذا الكيان، وافتقاده للثقة جرّاء الوسوسة والشكّ حتى في حلفائه، وميله لسلوكيات الانتحار التي تجد لها رصيداً في الماسادا، وهو ما يفسّر كلّ هذا العنف المادّي والنظري، والذي يصل إلى سنّ تشريعات مثل قانون المواطنة وقسم الولاء، وتتدرج الوسوسة والغرابة إلى دعوة الآخرين للاعتراف به كدولةٍ دينية يهودية في الوقت الذي يفاخر فيه بأنّه يحتكر الديمقراطية، ويمنع لمَّ شمل عائلات، ومنع الزوجة الفلسطينية من الإقامة مع زوجها.
 وهو الذي يتلمس حدود الخطر يحرص بعناية على حلّ مشكلة اللاجئين، ويسهر على ذلك سرّاً وعلانية، بالتوطين والتهجير، بل ربّما هو الوحيد للغرابة الذي يناقش هذا الموضوع مع زعامات الدول الكبرى، وهو الذي يصارع الوقت لزراعة المستوطنين وهدم بيوت السكان الطبيعيين، وينادى بالسلام ويجهد في نسفه.
 إنّه الخوف الكامل من كلّ شيء، فلا أمان لديه إلا بتدمير كلّ العالم، حين تصبح الأرض خاليةً من كلّ الأغيار، بل إنّه حينئذٍ أيضاً سيموت، إذ لن يكون هناك ذلك الآخر، الآخر الذي يمنحه ذاته وسماته ومبرّر تشكّله، فإذا كانت كلُّ صفته أنّه هو الشعب المختار المتميز عن غيره، فإنّه سيفقد وقتها ذاته عندما لا يبقى على ظهر الأرض هذا الغير، ممّا يلغي مبرّر استمرار هذه الصفة، فأيّ معنى لوجوده سيكون، إذا أردت أن تكون أفضل من غيرك، فلا بدّ أن يكون هنالك غيرك، أم أنّها حالة الذهان.

الذهان: حالة مرضيّة تصيب الكيان النفسي والعقلي ينفصل فيها المريض عن العالم، ويعيش في عالمٍ خاصٍّ به مزدحم بالأوهام والتخيّلات والوساوس والهلوسة، ويبتعد عن الواقع، وتظهر لديه اضطرابات فكرية وانفعالية وسلوكية، وهذا كلّه مع كامل إحساسه بمنطقيته وطبيعيته.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19750

العدد 19750

الأربعاء 16 أفريل 2025
العدد 19749

العدد 19749

الثلاثاء 15 أفريل 2025
العدد 19748

العدد 19748

الإثنين 14 أفريل 2025
العدد 19747

العدد 19747

الأحد 13 أفريل 2025