فئة مهمشـة بدون حماية اجتماعية

« باهية « بـين خدمــة البيـــوت وعبـث فـيروس «المجتمـع»

نضيرة نسيب

  التقت «الشعب» معها بالصدفة، كانت تبحث عن المساعدة. تقربت منها لمعرفة من هي.. لتكتشف أن المرأة الشاحبة الوجه المسودة العينين المطبقة الوجنتين لم تكن تعيش حياة «باهية « ليكون اسمها كذلك ليس على مسمى، بل مصيرها العائلي جعلها تكون سوى إحدى العاملات التي تتنقل من بيت إلى آخر من أجل كسب العيش الكريم، كانت يومها خاوية البطن وتبحث عن من يقدّم لها ثمن لقمة بسيطة تسد بها جوعها وتؤمنها من خوف فيروس يتربص بالعباد أكثر منه تربصا بالبلاد.

بالعودة إلى الخلف سنوات، تذكرنا أن هذه المرأة لم نشهدها للمرة الأولى وسبق لنا وأن رأيناها، لكن في حال أحسن من ذلك وكنا كلما لاحظناها في الحافلة نجدها تحمل قفة وتفتخر بما فيها من كسب ليومها ذاك وتحدثنا بدون انقطاع، فرحة بما نالته من عطايا  من ألبسة ومأكل مقابل تقديمها لخدمات في بيت إحداهن والتي فضلت أن تكافئها بمقايضة ساعات عملها بملابس أو أكل يسد جوع يومها بدل أن تدفع لها أجرتها عن عملها اليومي نقدا، وفي كل مرة كان الأمر كذلك، إلى أن أتى اليوم الذي استأمنتنا فيه حكايتها.
 تقول باهية، إنها كانت تعمل في مؤسسة خاصة وتم فصلها يوم أن أصيبت بأزمة نفسية لتجد نفسها فاقدة لمصدر عيشها مما جعل حالتها العقلية تتأثر جراء ذلك، والملاحظ عليها أنها لا تستطيع الاستقرار في مكان واحد، وهي تبحث منذ ذلك اليوم عن عمل يكفيها شر يومها.  وما زاد الأمر حدة هو تخلي عائلتها عنها بسبب انتقالها إلى بيت آخر في حي تكره حتى التحدث عنه، وتقول إنها لم تستطع التأقلم هناك وتفضل العودة دائما للمبيت في  أحضان حيّها القديم في كل مرة، لا سيما عند إحدى قريباتها أو معارفها اللواتي يكرمنها مقابل تقديم خدمة لهن في بيوتهن.  وبقي الحال كذلك بالنسبة لها لأكثر من خمسة عشر سنة وبقيت باهية تصارع أخطبوط الحياة ليأتي يوم وتحط الرحال في بيت الله، في مسجد إحدى الأحياء بالجزائر العاصمة، لتعمل في تنظيف مغاسل بيت الوضوء الخاص بالنساء والمجانب لفناء المدخل الخلفي للنساء، وهنا أصبح هذا المكان الوحيد الذي تجد راحتها فيه، لأنه احتضنها بدون مقابل،  تحوّل إلى ملجأها اليومي، أين أصبحت تجمع  فيه بعضا من النقود التي يتصدق بها بعض المحسنين نظير قيامها بأعمال التنظيف، وهنا تغير كثير من حالها وبدا ذلك واضحا في طريقة لباسها التي أصبحت أكثر ترتيبا من ذي قبل.
 كنا صادفناه بعد نهاية أشهر الحجر الصحي الذي فرض علينا تأمينا للأرواح ووقاية من فيروس كورونا الفتاك، وكان ذلك أشد وطأ فخلال فترة إغلاق المساجد، وجدناه تعود إلى نقطة الصفر، ساءت حالتها وأصبحت لا تجد قوت يومها  ليس لأنها لا تعمل  ولا تكد، وإنما لأن  فيروسا فضح المستور في مجتمعنا لتمثل «باهية « عينة من خادمات البيوت التي رمى بهم الفيروس اللعين إلى الشارع لتمثل الفئة الأكثر تضررا ويبقى الضرر مزدوجا خلال أزمة كورونا، فهل فكرت المنظومة المجتمعية في مثل هؤلاء  لتجعل عملهن مقننا وتحت غطاء حماية اجتماعية تقيها شر أيام عجاف أكثر حدة من ذي قبل، هذه الأيام التي نعيشها والتي تضررت منها فئات كثيرة، فكم هن كثيرات مثيلات باهية مادام غير مسموح التحدث عنهن، كان بإمكاننا تذكرهن في الثامن مارس فقط من كل سنة، لكن على العكس يجب لما ننتبه إلى وجودهن بيننا  لنكشف الغطاء عنهن كلنا بدون استثناء فليكن ذلك على مدار أيام السنة نمد لهن يد العون في إطار منظم لعلنا نعيد ترتيب حياتهن، فالوقت لابد أن يحين لتعويضهن ويستجيب القدر ليعطيهن حقهن في العيش الكريم الذي سلبه منهن في يوم من الأيام غدر الزمان.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024