يتلقى أفراد المجتمع في الآونة الأخيرة كمًا هائلاً من الضغوطات النفسية الحادّة والمختلفة والتي ولدّت لديهم حالات لا مثيل لها من التوتر على المستوى النفسي، جراء الأحداث المأساوية المتعاقبة على بلادنا، مما استدعى تقرّب جريدة «الشعب» من الدكتورة كنزة فازية مرزوقي، المختصة في علم الأوبئة والطب الوقائي، واللايف كوتش، المحاضرة الاستشارية المختصة في علاج الضغط النفسي للتحدث عن موضوع مهم جدا والمتمثل في كيفية التأقلم الصّحي مع الضغوطات النفسية الحادّة ومختلف حالات التوتر الناجمة عن ذلك تجنبا لتحوّلها إلى توتر مزمن والذي يشكل عامل خطر للكثير من الأمراض النفسية والجسدية.
أوضحت لـ «الشعب»، اللايف كوتش، الدكتورة كنزة فازية مرزوقي، أن عدد كبير من الأشخاص يتبنون في مواجهتهم للضغوطات النفسية نوعا من التأقلم غير الصحي ويعتمدونه كحل دائم ويعيشون مع مخلفاته لفترات طويلة من حياتهم، وهذا ما ينعكس بالضرورة على صحتهم بمختلف أبعادها الجسدية والنفسية، بينما الأصّح هو التأقلم الصحّي الفعّال الذي يحافظ على التوازن في مختلف الأبعاد السالفة الذكر، وأكدت على أهمية هذا النوع من التأقلم الصحي مع الضغط النفسي الحاد، ومدى مساهمته في تفادي المضاعفات النفسية والجسدية، ودعت إلى ضرورة التكيف الواعي مع الضغوطات النفسية ومختلف حالات التوتر.
ردّة فعل طبيعية تُفعّل لمواجهة الخطر
تقول الدكتورة كنزة فازية مرزوقي بخصوص مواجهة عدد كبير من الأشخاص في مجتمعنا في الفترة الأخيرة مجموعة من الضغوطات النفسية الحادّة، بالنظر لتعاقب عدد من الأحداث المأساوية، والمتعلقة بانتشار أخبار الموت والفقدان اليومي الذي مسّ عدد كبير من العائلات الجزائرية، أن هذه الضغوط النفسية يتوّلد عنها ردّات فعل طبيعية تتمثل في التوتر le stress ، فعند مواجهة الخطر يعطي الدماغ إشارات عن طريق نظام عصبي خاص والذي يفعّل لمواجهة الخطر، ونفس النظام سينتج عنه أعراض جسدية: كزيادة سرعة التنفس وتسارع دقّات القلب، ارتفاع حرارة الجسم، ارتفاع ضغط الدم ونسبة السكر في الدم.. إضافة إلى الأعراض النفسية (الفكرية والعاطفية) وأيضا السلوكية، ولا يمكن اعتباره مشكل بل يمثل ردّة فعل طبيعية داخل البنية الفيزيولوجية الهدف منها تفعيله (النظام العصبي) من أجل حماية الجسم والذات المعنوية وبهدف التكيف مع المحيط الخارجي وأحداثه.
التكيّف مع الضغوطات النفسية يحافظ على التوازن
تتبنى الدكتورة مرزوقي المقاربة الهوليستية (الشاملة) في طرحها، والتي تعتبر صحّة الأفراد عبارة عن كل متكامل من العناصر المترابطة بينها (جسم، عقل، قلب، وروح)، وهي تقول أن التكيّف الواعي والتأقلم الصحي يمثل كل المهارات والعادات الفكرية والعاطفية والسلوكية التي تساعد الأفراد والعائلات على تجاوز أزماتهم واكتساب أو زيادة في المرونة النفسية من أجل الحفاظ على التوازن في كل جوانب حياتهم. وتضيف أن كثيرا من الناس يعانون من الضغط النفسي المزمن الذي ينتج عن تأقلمهم غير الصحي الذي يتحول مع مرور الزمن إلى عادات قد تضّر الصحة الجسدية والنفسية وقد يصل إلى درجة الإدمان، وهو لا يقتصر على السلوكيات فقط، بل هناك إدمان على الأفكار والعواطف السلبية أيضا.
وهنا تشير الأخصائية إلى نقطة مهمة جدا يعاني منها كثيرون وهو العيش في حلقة مفرغة تنتجها الأفكار السلبية التي تجعلهم يحسّون بالمشاعر السلبية التي بدورها تجعل تفكيرهم سلبيا، وينتج عنه أفكارا أخرى سلبية ويبقى الفرد سجين هذه الحلقة المفرغة والتي تساهم في جعل الشخص في توتر دائم ومزمن وتطول حالة المعاناة على الدوام، وللأسف كثير من الأفراد والعائلات في مجتمعنا يعيشون هذه الحالة من التأقلم غير الصحي معتقدين ومقتنعين أنها وضعية طبيعية وهم مجبرين على تحملها ولا يبحثون عن حلول لتغيير الوضعية والخروج منها.
التوتّر المزمن يتسبّب في ظهور أمراض مُزمنة معقّدة
فيما يخصّ التوتر المزمن وأضراره على نفسية الأمراض، ذكرت لـ «الشعب» الدكتورة مرزوقي عددا من الأمراض المزمنة النفسية والجسدية التي يمكن أن يتسبب فيها التوتر الدائم le stress الذي يكون كنتيجة للتأقلم غير الصحي مع الضغوطات النفسية وأهمها الإكتئاب، واضطرابات القلق والسمنة خاصة على مستوى البطن وهي الأخطر والإفراز الدائم لهرمون التوتر: الكورتيزول الذي يمثل واحدا من أسبابها الرئيسية، إضافة إلى مرض السكري، ارتفاع ضغط الدم، أمراض القلب والسرطان..
دون نسيان الأمراض الفيروسية الحادّة مثل كوفيد 19 الذي له علاقة مع ضعف الجهاز المناعي بسبب هرمون الكورتيزول.
كما أن التوتر المزمن يؤثر سلبيا في العلاقات الزوجية والنمو المتوازن للأطفال والمراهقين. وتشير الدكتورة أيضا أنها تستقبل في استشارات الضغط النفسي العديد من الحالات لزوجات يعانين من سوء المعاملة من طرف أزواجهن الذين يعانون بدورهم من سرعة الغضب وعدم التحكم بالنفس والتنفيس عن غضبهم وتوترهم بشكل عنيف يؤذي الزوجة والأطفال أيضا.
كما تضيف المختصة أن تبني التأقلم غير الصّحي يؤدي إلى أنواع مختلفة من الإدمان لاسيما على الأكل فكلما يشعر الشخص بالتوتر والقلق يلجأ إلى الأكل ويكون الجوع في هذه الحالة جوعا نفسيا، وذكرت أيضا الإدمان على التدخين وعلى المخدرات، بالإضافة إلى الإدمان على الأفكار السلبية أيضا واجترار الأفكار والأحداث السلبية، وهذا النوع من الإدمان يُدخل الشخص في حلقة مفرغة غير منتهية تطغى عليها المشاعر السلبية كالخوف الدائم أو الندم والشعور بالذنب أو تقمص دور الضحية أو الكره والحقد والرغبة في الانتقام ..
حلول ونصائح تساعد على التأقلم الصحي
تقترح الدكتورة كنزة فازية مرزوقي، الأخصائية في الطب الوقائي، مجموعة من النصائح والحلول وهي تبرز في هذا المقام أهمية العمل على المستوى الوقائي، ما يجعل الأفراد والعائلات في المجتمع يدركون أهمية الانتقال من وضعية اللاوعي بمحيطهم وردّات أفعالهم إلى وضعية الوعي التي تمكنهم من تصحيح سلوكاتهم غير الصحية. وتدعو في هذا الصدد إلى تغيير فكرة أن الضغط النفسي المزمن شيء عادي وإدراك حقيقة أنه عامل خطر للعديد من الأمراض ومشكل حقيقي يجب حلّه.
لتحقيق ذلك تدعو وتنصح الدكتورة كل من يعانون حاليا من الضغط النفسي أن ينتبهوا إلى ردّات فعلهم ويلاحظوا تصرفاتهم الناتجة عن حالات التوتر ثم القيام بتصنيفها، إما صحية أو غير صحية ثم السعي إلى تغيير غير الصحية منها تدريجيا.
وبعد التقييم يأتي البحث عن الحلول والبداية تكون بتحديد مسببات التوتر والتي تختلف من شخص إلى آخر بحسب البنية الفكرية والجسدية والنفسية والتجارب الشخصية واختلاف البيئة والمحيط وتنصح بتطبيق قاعدة تتمثل في تجنب كل مصادر التوتر السلبي التي يمكن تجنبها كالعلاقات السامّة مثلا وأيضا تصفح مواقع التواصل الاجتماعي خاصة في الصباح مباشرة بعد الاستيقاظ..
أما مسببات الضغط الإيجابية فتنصح بمواجهتها بعقلية «التشالنج» التي تساعد على التطور والنمو مثلا الحصول على ترقية في العمل يعتبر ضغط نفسي إيجابي يستدعي تطوير القدرات والمهارات لتحمل المسؤولية وتخفيف الضغط، نفس الشيء بالنسبة لكل المواقف الصعبة في حياتنا التي إن نظرنا إليها على أنها فرص للنمو سيصبح التوتر محركا يدفعنا للتقدم بدلا أن يكون مصدرا للمعاناة.